بيروت: بعد انسحاب أميركي محدود بدا أشبه بتخل عن المقاتلين الأكراد في سوريا، يجد هؤلاء أنفسهم في مواجهة هجوم تركي عنيف وأمام خيار مرّ يدفع بهم إلى التقرب من دمشق، في خطوة يقول محللون إن الطرفين بحاجة ماسة إليها.

في التاسع من أكتوبر، بدأت تركيا ومقاتلون سوريون موالون لها هجوماً واسعاً ضد المقاتلين الأكراد التي تصنفهم أنقرة مجموعة "إرهابية"، رغم كونهم شركاء واشنطن في دحر تنظيم الدولة الإسلامية.&

وأتى الهجوم بعد يومين فقط من انسحاب قوات أميركية من نقاط حدودية، ما اعتبر بمثابة ضوء أخضر لأنقرة لشن الهجوم، ورأى فيه الأكراد "خيانة" لهم.

ومع تقلّص قدرتهم على المناورة، وتحت مرمى النيران التركية، يبدو أنه لن يكون أمام الأكراد بديل سوى الجلوس الى طاولة المحادثات مع الحكومة السورية التي طالما اتهمتهم بـ"الخيانة"، آخذة عليهم تحالفهم مع واشنطن.

ويقول الباحث المواكب للشأن السوري سامويل راماني لوكالة فرانس برس "غياب القوات الأميركية قد يتسبب بدفعهم للعودة إلى دمشق طلباً للمساعدة".

وبعد عقود من التهميش في ظل حكومات سورية متعاقبة، أنشأ الأكراد في بداية النزاع ومع انسحاب قوات النظام من مناطق يشكلون غالبية سكانها، إدارة ذاتية، وبنوا مؤسساتهم الخاصة. وتوسعت قواتهم تدريجياً لتسيطر على نحو 30 في المئة من مساحة البلاد، إثر طردها تنظيم الدولة الإسلامية من مناطق واسعة في شمال وشمال شرق سوريا، بدعم من التحالف الدولي بقيادة أميركية.

ويرى الباحث في شؤون الشرق الأوسط جان بيار فيليو أن الأكراد يدفعون اليوم ثمن خطأين نجما عن سوء تقدير.

ويوضح "ظنوا أنه بإمكان مشروعهم السياسي أن يتجذّر في سوريا من دون عداء واضح لنظام الأسد، واعتقدوا أن بإمكانهم نسج تحالف مستدام مع الولايات المتحدة بفضل كفاحهم ضد الجهاديين".

وعلى المدى القصير، يعتبر الباحث في مركز أبحاث حوار الحضارات في موسكو أليكسي مالاشينكو أنه يجب على الأكراد ألا يتوقعوا مساعدة من دمشق لمواجهة تركيا، موضحاً "لا يمكن للأسد تقديمها لهم خشية إلحاق الضرر بالعلاقات بين موسكو (حليفته) وأنقرة".

خيار مر

وسبق للأكراد أن أجروا الصيف الماضي محادثات مع الحكومة السورية، إلا أنها اصطدمت بحائط مسدود.&

ويصر الأكراد على الحفاظ على مكتسبات حققوها خلال السنوات الماضية وعدم التخلي عن إدارتهم الذاتية.

وفي المقابل، ترفض الحكومة السورية إقامة أي شكل من أشكال الحكم الذاتي على أراضيها، وترغب بعودة مؤسسات الدولة كافة إلى مناطق سيطرة الأكراد وحتى إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل اندلاع النزاع في العام 2011.

وقال نائب وزير الخارجية والمغتربين السوري فيصل المقداد الثلاثاء متوجها الى الأكراد بالقول "ننصح من ضلّ الطريق أن يعود إلى الوطن لأن الوطن هو مصيره النهائي". وأضاف "نقول لهؤلاء إنهم خسروا كل شيء".

وفي افتتاحية نشرها الخميس، دعا رئيس تحرير صحيفة "الوطن" المقربة من دمشق وضاح عبد ربه الأكراد إلى "تسليم كامل سلاحهم الثقيل للجيش العربي السوري، وفتح الطريق أمام عودة المؤسسات إلى المناطق التي يحتلونها، والعودة إلى صفوف الجيش السوري ليقاتلوا معاً التوغل التركي".

ورغم دعوة دمشق الأكراد إلى "حضن الوطن"، إلا أن التصريحات الرسمية الأخيرة عكست اصرارها على استعادة مناطق سيطرتهم عاجلاً أم آجلاً، وهو ما يثير مخاوف الأكراد وخشيتهم من خسارة كل ما بنوه.

ويقول الباحث في معهد الأمن الأميركي الجديد نيكولاس هيراس لفرانس برس "لا يودّ الأكراد التصالح مع الأسد وفقاً لشروط دمشق التي ستؤدي إلى خسارتهم لإدارتهم الذاتية".

ويضيف "اللجوء إلى الأسد قد ينجح في إبعاد تركيا، ولكنه سيكون خياراً مراً من الصعب على قيادة قوات سوريا الديموقراطية تجرعه".

نفط وقمح

ورغم العقبات الكثيرة أمامها، دعت الإدارة الذاتية الكردية الأربعاء روسيا إلى لعب دور "داعم وضامن" في الحوار مع دمشق من أجل التوصل إلى "نتائج عملية حقيقية". واعتبرت أن "الحل الأمثل (...) يكمن في الحوار وحل الأمور ضمن الإطار السوري- السوري".

وجاءت هذه الدعوة بعدما أعلن وزير الخارجية سيرغي لافروف إجراء بلاده اتصالات مع الأكراد والحكومة السورية و"حضهم على بدء الحوار لتسوية المشاكل في هذا الجزء من سوريا".

وأكد مصدر مسؤول في وزارة الخارجية السورية، وفق ما نقل الإعلام الرسمي الأربعاء، استعداد بلاده "لاحتضان أبنائها الضالين إذا عادوا إلى جادة العقل والصواب".

وتسيطر قوات النظام السوري اليوم على نحو ستين في المئة من مساحة البلاد، بعدما تمكّنت من حسم جبهات عدة لصالحها على حساب الفصائل المعارضة وتنظيم الدولة الإسلامية في آن معاً.

إلا أن الشرق السوري الغني بالموارد الأساسية الضرورية لتأمين حاجات النظام من النفط والمياه والقمح، لا تزال تحت سيطرة قوات سوريا الديموقراطية، وعمودها الفقري وحدات حماية الشعب الكردية.

وترى مجموعة "أوراسيا" للاستشارات السياسية إنه على مستوى استراتيجي، ستعمل روسيا والنظام السوري على الاستفادة قدر الإمكان من الهجوم التركي لتحقيق مكتسبات.

وذكرت في تقرير الأسبوع الحالي أن "فوائد إجبار الأكراد على القبول باتفاق يسمح للرئيس بشار الأسد بإعادة بسط سيطرته على الشرق الغني بالموارد، عالية جداً".

وفي وقت يصر الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الخروج من سوريا عاجلاً أم أجلاً، توقع التقرير أن يعيد الأكراد حساباتهم بأن "يسمحوا لقوات الأسد بالتوسع بشكل كبير في الشرق".&

وفي مواجهة النيران التركية من جهة والشروط السورية التعجيزية من جهة ثانية، بات الأكراد عالقين بين المطرقة والسندان.&

ويقول راماني "على الأرجح أن أي حل لن يحصل وفق شروط الأكراد لأنهم فقدوا هامش المناورة".