القامشلي: انقلبت حياة سكان مدينة القامشلي ذات الغالبية الكردية رأساً على عقب في خلال عشرين يوما، مع سحب واشنطن جنودها من نقاط عديدة في "الإدارة الذاتية" ودخول أنقرة الى المنطقة ونشر دمشق وموسكو قواتهما، ويبدو المستقبل بالنسبة اليهم غامضا ومثيرا للتساؤلات والقلق.

في سوق المدينة الذي عاد اليوم الى الاكتظاظ بالباعة والبسطات والزبائن، يقول سعد محمد (35 عاماً) "أكثر ما يخيفنا أن لا شيء واضح، لا أحد يعرف إلى أين تتجه المنطقة".&

ويضيف الشاب الملتحي الذي يعمل اليوم في متجر ألبسة داخلية برغم حيازته شهادة في الأدب العربي، "هل سيعود النظام؟ هل سيأتي الأتراك والروس أو سيعود الأميركي مجدداً (...)؟ لا أفهم شيئاً".

في السابع من أكتوبر، انسحبت قوات أميركية حاربت لسنوات إلى جانب الأكراد ضد تنظيم الدولة الإسلامية، من نقاط حدودية عدة مع تركيا. بعد يومين، بدأت تركيا وفصائل سورية موالية لها هجوماً ضد المقاتلين الأكراد سيطرت خلاله على منطقة حدودية بطول نحو 120 كيلومتراً.&

شعر الأكراد أنهم تُركوا وحدهم في مواجهة تركيا، عدوهم التاريخي، ففتحوا قنوات اتصال مع دمشق وحليفتها روسيا، تمّ بموجبها انتشار لقوات النظام في نقاط حدودية عدة، قبل أن تبدأ موسكو بتسيير دوريات في المنطقة.

وعادت الولايات المتحدة لتؤكد دعمها للأكراد وترسل تعزيزات إلى مناطق الأكراد الواقعة الى الشرق أكثر، لحماية الحقول النفطية، بحسب تعبيرها.

بعد بدء الهجوم التركي، توقفت الحركة في مدينة القامشلي التي يعدها سكانها عاصمة للإدارة الذاتية الكردية المعلنة من جانب واحد في شمال وشمال شرق سوريا. أغلقت المحال لأيام عدة، ولازم السكان منازلهم ومنهم من فضل إرسال أولادهم بعيداً لحمايتهم من قذائف تركية طالت المدينة.

وتم تعليق الهجوم التركي في 23 تشرين الأول/أكتوبر بعد وساطة أميركية واتفاق روسي تركي. لكن القلق لا يزال ينهش السكان الذين يتابعون الأخبار لحظة بلحظة، يحللون ويناقشون ما يخطط لهم المستقبل.

"هامش الحرية"

ويقول سعد "الانسحاب الأميركي كان له تأثير كبير، هناك أناس مرضوا من شدة القلق والتفكير".

لكن أكثر ما يخيفه اليوم هو أمران: قوات النظام من جهة والقوات التركية التي تعد المقاتلين الاكراد "إرهابيين" من جهة ثانية.

ويرى أن "خيار عودة النظام هو ثاني أسوأ خيار بعد الأتراك". ثم يوضح "أنا مطلوب للتجنيد الإلزامي... تسويات الحكومة لا تشجع أبداً. (أما البقاء) مع الأتراك والمرتزقة فهذا أمر مستحيل تماماً".

ويصر مسؤولون أكراد على أن الاتفاق مع دمشق عسكري بحت، ويقتصر فقط على انتشار قواتها في نقاط حدودية لصد التوسع التركي، ولا يمس بمؤسسات الإدارة الذاتية، إذ إن مستقبل هذه المنطقة سيكون مطروحاً في مفاوضات مقبلة مع الحكومة السورية.

لكن يبدو أن هذه التطمينات لا تطفئ مخاوف الشبان، وكثيرون منهم حملوا حاجياتهم وفروا إلى العراق استباقاً لمرحلة صعبة قد تنتظرهم.

في العام 2011، خرج جانو شاكر (37 عاماً) إلى شوارع دمشق للمشاركة في الاحتجاجات ضد النظام، عمل في تنسيقيات المعارضة، قضى أياماً عدة في الغوطة الشرقية بعد سيطرة الفصائل المعارضة عليها.

وفي العام 2014، وجد الشاب نفسه مجبراً على الفرار من دمشق خشية من الملاحقة الأمنية، فعاد إلى القامشلي ليعيش فيها تحت حكم الإدارة الذاتية الكردية.

ويقول "عودة النظام تشكل تهديداً على أشخاص مثلي اكتسبوا هامشاً من الحرية في التعبير في مناطق الإدارة الذاتية، أو معارضين أو مطلوبين للخدمة، الكثيرون قد يفكرون بالهجرة".

ومنذ إعلان الاتفاق مع دمشق، يحاول أهله اقناعه بالمغادرة، إلا أنه يتردد برغم خوفه على طفليه. ويقول "كيف لي أن اترك أهل منطقتي في أحوال كهذه؟ أخجل من تركهم (..) أو أن أدير ظهري إلى مشروع من الممكن البناء عليه من أجل مستقبل سوريا".

"قضية دولية"

في العام 2012 ومع اتساع رقعة النزاع في سوريا، انسحبت قوات النظام تدريجياً من شمال شرق سوريا وحافظت فقط على مؤسسات في "مربعين أمنيين" في مدينتي القامشلي والحسكة. ولم يعد لديها أي دور، خصوصاً مع تأسيس الأكراد، الذين عانوا التهميش لعقود على أيدي الحكومات السورية، إدارتهم الذاتية.

واتسعت مناطق سيطرة الإدارة الذاتية التي تلقت دعماً دولياً واسعاً، قبل ان تعود الى الانكماش مع الهجوم التركي.

ويقول شاكر "أعتقد أن النظام لا يستطيع أن يعود بذات العنجهية او الممارسات القديمة، لا يستطيع أن يعود إلى ما قبل 2011".

ويضيف "في السابق كانت القضية الكردية محصورة بين أربعة جدران فقط، أما اليوم فباتت قضية دولية. ليس هناك من لا يعرف كوباني أو عفرين".

ورغم كل شيء، يرى شاكر في عودة النظام "خياراً أقل كارثية من دخول الأتراك والفصائل التابعة لها". ويتهم ناشطون ومنظمات حقوقية مقاتلي الفصئل السورية الموالية لأنقرة بارتكاب انتهاكات فادحة.

ويقول شاكر "هؤلاء لا يشبهون بشيء الشباب الذين نزلوا في العام 2011 ضد النظام".

ويضج سوق القامشلي بالأصوات: طفل يصرخ "صابون صابون" للبيع، ويجلس آخر أمام بسطة صغيرة لبيع أدوات التجميل، وتنتشر من كل حدب وصوب عربات المكسرات.

على بعد عشرات الأمتار، صورة كبيرة للرئيس السوري بشار الأسد مرفوعة على مدخل ما يعرف بالمربع الأمني لقوات النظام.

داخل محله لبيع المجوهرات، يقول حسام اسماعيل (30 عاماً) الحائز شهادة في القانون، "هناك حالة تخبط في القامشلي والمناطق الكردية بشكل عام".

ويضيف "على اعتبار أنني مطلوب للتجنيد فمن حقي أن أخاف، لكنني على يقين أن الإدارة الذاتية ستجد حلولاً وتسويات تمنع أن يعود النظام إلى ما قبل 2011".