الخرطوم: "يا ماشي لبيتك، شيل معك نفرين!" هتاف تصدح به حناجر شباب يعترضون سير مركبات خصوصية في شوارع الخرطوم لإقناع سائقيها بأن يقلّوا معهم مجّاناً ركّاباً ينتظرون منذ ساعات وسيلة نقل في ظلّ أزمة مواصلات خانقة تعاني منها العاصمة السودانية.

وإذا كانت المواصلات أزمة مزمنة في السودان، لا سيّما في العاصمة، فهي تفاقمت في الآونة الأخيرة بسبب عوامل عدّة أبرزها تهالك حافلات النقل العام، وغالبيتها مملوك لأفراد، وخروج قسم منها من الخدمة جرّاء ارتفاع أسعار قطع الغيار - إن وُجدت - وشحّ الوقود ورداءة الطرق وتدهور سعر العملة.

قبالة مسجد بحري الكبير بالعاصمة السودانية، يقف الحاج أبو أحمد وسط مئات من الركاب ينتظر وسيلة نقل تنهي ساعات انتظاره الطويلة للعودة إلى منزله في أمّ درمان على الضفّة الأخرى للنيل.

"لا أقوى على الركض"

ويقول السبعيني ذو اللحية القصيرة البيضاء بلون عباءته وعمامته لوكالة فرانس برس، "أنتظر منذ ساعتين! مرّت حافلات كثيرة لكنّني لم أستطع ركوب أيّ منها لأنّني مسنّ لا أقوى على الركض أو التدافع ولا أملك المال لأستقلّ سيارة أجرة أو حتى توك توك".

أمامه، وسط طريق تملؤها الحفر وعلى جانبيها طبقة كثيفة من الرمال، يقف شبّان يردّدون هتافات بينها "أُقسِم، أُقسم، أُقسم... هنجيب عربات عربات... عربات وكمان روزات (باصات)".

هؤلاء هم "شبّان المبادرة" الذين كانوا جزءا من ثورة جمعت ملايين السودانيين على حكم الرئيس عمر البشير قبل أن يطيح به الجيش في أبريل. وكانت المواصلات واحدة من الأزمات التي أطلقت شرارة الانتفاضة الشعبية.

ويقول أحدهم ويدعى حسن سيف الدين (27 عاماً) "أطلقنا هذه المبادرة لكي نساعد الناس على العودة إلى بيوتهم".

ويضيف وقد توقفت أمامه شاحنة صغيرة بيضاء أقلّت في صندوقها الخلفي أكثر من عشرة ركاب "نطلق هتافات مثل: +يا ماشي لبيتك، شيل معك غيرك، إرفع معك أمك، وصّل معك أختك!&هناك سائقون يتجاوبون معنا. نحن نعطي الأولوية للنساء والأطفال والعجزة".

ويستبق بعض السائقين محاولة استيقافه بإشارة من بعيد بسبابته نحو الأسفل، ما يعني أن المكان الذي يقصده قريب، فيكمل سيره بدون توقف، بينما يتوقف آخرون بكل طيبة خاطر، مرحبين بالمبادرة وبركابهم.

وتبدأ ساعة الذروة المسائية في الخرطوم في الرابعة بعد الظهر مع انتهاء دوام الموظفين والطلاب وتستمرّ أحياناً لغاية الثامنة مساء. وزاد من حدّة الأزمة الفارق الشاسع بين السعر البخس لتذكرة الحافلة المحدّد قانوناً (5 جنيهات أي أقلّ من 10 سنتات) والتسعيرة التي يحدّدها سائقو التاكسي "على مزاجهم" في غياب عدّادات أو تعرفة محدّدة.

وفي بلد يقلّ فيه معدّل الدخل الفردي اليومي عن دولارين، أصبح ركوب سيارة الأجرة ترفاً بالنسبة للطبقة الكادحة.

وفيما تلُوح من بعيد حافلة كبيرة زرقاء فارغة يندفع العشرات باتجاهها، تبقى سحر رمضان، الثلاثينية التي تحمل على كتفها رضيعتها، في مكانها، فهي تعلم أنّ لا حظّ لها بالظفر بمقعد.

وتضطر الحافلة الى التوقّف في وسط التقاطع مع تقاطر الركاب دفعة واحدة، ولا تنفع كلّ محاولات شرطي المرور ببزّته الكحلية وصافرته التي تصمّ الآذان في جعل الركّاب يتريثون.

إلى متى؟

أقلّ من دقيقة، ويتكدّس الركّاب في الحافلة جلوساً ووقوفاً، فتنطلق. ولكن هذا لا يمنع بعض الشبّان من الركض خلفها وإكمال محاولتهم لركوبها، بينما الحافلة تواصل سيرها وقد مالت بشدة نحو اليمين من وطأة الحمولة الزائدة، لكأنّها على وشك أن تنقلب.

وسارت رقيّة النور (24 عاماً) سيرا على الأقدام لمدة ساعتين من جامعة الخرطوم حيث تدرس إلى هذه المحطة، علّها تركب حافلة توصلها الى منزلها بمنطقة الثورة، معتبرة أن فرصها في هذه المحطة أفضل. لكنها بقيت على الطريق.

وبصوت مرتفع ونبرة غاضبة، تقول طالبة آداب اللغة الصينية وقد غطّت رأسها بحجاب برتقالي شفاف "وضعُ البلد سيّئ! خرجنا في تظاهرات ولا حلّ، أصبحت (السلطة) مدنيّة ولا حلّ، ولغاية الآن الوضع مستعصٍ. هل سيظلّ وضع المواصلات هكذا؟ هل سنظلّ نعاني؟".

ووعدت الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك بمعالجة أزمة المواصلات سريعاً عبر خطة تشمل خصوصاً استيراد حافلات وإصلاح تلك المعطّلة وتأهيل طرق رئيسية وتعزيز الرقابة وتفعيل سكك الحديد. وبانتظار حصول ذلك أمرت الأحد جميع الوزارات والمؤسسات والقوات الأمنية والعسكرية "بتسخير آلياتها لنقل المواطنين مجاناً".

لكن رقيّة التي يستغرقها مشوار العودة لمنزلها يومياً ثلاث أو أربع ساعات تعوّل أكثر على المبادرات الفردية. وتقول "لو أقلّ كل سائق نفرين أو ثلاثة معه لحلّت الأزمة. شباب المبادرة يحاولون إقناع السائقين بذلك لكنّ بعض هؤلاء مفترون، يروننا ويكملون سيرهم".

وإذا كان "شبان المبادرة" يحاولون عبر الهتاف إقناع سائقي المركبات الخصوصية بنقل الركاب، فإنّهم يستخدمون لغة أخرى لإقناع سائقي الحافلات، فلا يتوانون عن إجبارهم على تغيير وجهاتهم لكي يقلّوا معهم أعداداً أكبر من الركاب ولمسافات أطول.

ويقول سائق إحدى الحافلات نزار دفع الله (32 عاماً) بانزعاج واضح "كنت متّجهاً إلى ناحية المصرف فأجبرني شبّان المبادرة بالقوّة على الذهاب إلى الكوبري".

ويضيف "حالة الطرق سيّئة والمحروقات شحيحة والزحمة خانقة، وكلّ هذا يقلّل من عدد رحلاتنا اليومية فيقلّ ربحنا، بينما ترتفع أسعار قطع الغيار".

لكنّ "شبان المبادرة" يقولون إنّ سائقي الحافلات يلتفّون على سعر التذكرة الثابت بتقصير مسافة الرحلة، بحيث بات الراكب يستقلّ أحياناً أربع حافلات للوصول إلى منطقة كان يصل إليها بحافلة واحدة.