كسرت ثورة 17 أكتوبر اللبنانية جدرانًا كثيرة: جدار القيود الطائفية، &جدار العنف والتهويل بالحرب الأهلية، وجدار الخوف من سطوة حزب الله. إنها ثورة مجيدة بمحطات وظواهر لافتة.

إيلاف من بيروت: من يتابع يوميات الثورة اللبنانية التي اندلعت في 17 أكتوبر الماضي، لا مفر من أن يتوقف عند محطات مهمة وظواهر لافتة في السياق الثوري اللبناني المستمر، والذي يشي باستمراره إلى أجل لا يسميه إلا الثوار أنفسهم، عندما يحققون الأهداف التي رسموها لحراكهم منذ اللحظة الأولى، والتي يرفضون أن يسموها مطالب، بينما يؤكدون على أنها حقوق حرمتهم منها الطبقة السياسية وورثتها، في مقدمها حكومة مستقلة من الاختصاصيين، واستعادة المال العام الذي نهبه أركان سلطة المحاصصة الطائفية ويقدر بنحو 800 مليار دولار.

سلمية

كثيرًا ما يسلّط مؤرخو لبنان وجبله منذ عام 1840 الضوء على حوادث دامية تخللت الحياة السياسية اللبنانية المحكومة بالتفرقة الطائفية، على الرغم من الخطب الكثيرة التي تكتب في ما يسمى "العيش السلمي" و"السلم الأهلية".

المميز في ثورة 17 أكتوبر اللبنانية هي "فائض السلمية" الذي تتمع به. فأي ثورة في العالم على السلطات الحاكمة لا بد أن تتخللها دورات من العنف. في الثورة العراقية التي تعاصر الثورة اللبنانية اليوم، سقط مئات القتلى وآلاف الجرحى، وتعرضت مبان حكومية ودبلوماسية ومنازل مسؤولين للحرق والتدمير. في لبنان، حالات الصدام مع الجيش اللبناني تكاد لا تذكر.

لم يسجل عنف حقيقي إلا عندما هاجم أنصار حركة أمل وحزب الله مسلحين بالعصي والسكاكين المتظاهرين العزل في ساحات الاعتصام ببيروت، وعندما هاجم أحد أنصار التيار الوطني الحر، تيار رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، المحتجين في منطقة جل الديب بسلاحه الحربي، وأخيرًا عندما سقط علاء أبو فخر أول شهيد للثورة في خلدة برصاص مرافق أحد ضباط المخابرات اللبنانية.

إقالة الحكومة

ليست هذه أول حكومة لبنانية تسقط تحت ضغط الشارع، لكن المحطة الأساسية التي أذكت أمل المنتفضين اللبنانيين بقدرتهم على التغيير كانت استقالة حكومة سعد الحريري، على الرغم من الدعم الكبير التي كان الحريري يحظى به من جانب أحزاب السلطة، وفي مقدمها حزب الله وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي.

إقالة الشعب حكومة الحريري قدمت للثورة اللبنانية جرعة من "فائض القوة"، فشعر المحتجون في الشوارع أنهم فعليًا يمسكون بمفاصل السلطة التنفيذية، وهذا ما جعلهم ينطلقون من هذا الإنجاز إلى المطالبة بسقوط العهد الحالي، وإجراء انتخابات مبكرة لاستبدال البرلمان الحالي، بعد تأليف حكومة من الاختصاصيين مستقلة عن الأحزاب، تتولى إنقاذ ما تبقى من الاقتصاد اللبناني المتهالك.

إلى ذلك، مثلت استقالة الحريري تحت ضغط الشارع كسرًا لكلمة حسن نصرالله، أمين عام حزب الله، الذي كان يؤكد في خطبه منع سقوط الحكومة في الشارع، معلنًا أنه يحميها من السقوط، مؤكدًا أنها ستستمر. وهذا الأمر أيضًا قوّى عزيمة الثوار اللبنانيين، الذين يرون في نصرالله شريكًا في هذه السلطة الفاسدة.

إحراج حزب الله

في الأيام الثلاثة الأولى من الثورة، كان الجمهور "الشيعي" المؤيد لثنائية أمل – حزب الله في مناطق محسوبة على هذه الثنائية عصب الثورة. نزل هذا الجمهور في الشارع، مهاجمًا رئيس حركة أمل ورئيس البرلمان نبيه بري وزوجته رندة، ونصرالله ونوابه ووزراءه، متهمينهم بأنهم من الفاسدين، ومدخلينهم في سياق شعار الثورة "كلن يعني كلن"، في دعوة إلى محاسبة كل أركان هذه السلطة ونبذها من الحياة السياسية اللبنانية.

أدرك حزب الله أن استمرار هذا الأمر يعني فلتان زمام الأمر من يده في عقر داره بالجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية، فكان أن خطب نصرالله طالبًا من أنصار "الحزب" الخروج من الشارع، وأرسل من اعتدى على التظاهرات في صيدا وصور والنبطية ومناطق جنوبية أخرى، في غزوات نفذها عناصر الحزب وعناصر رديفه الشيعي "أمل".

تمكنت قوى الأمر الواقع في البيئة الشيعية من تخفيف زخم الثورة في هذه المناطق، لكنها لم تتمكن من إخفاء حقيقة تعتبر بالنسبة إلى الثنائي نصرالله-بري "مرة": ثمة تيار شيعي عارم لا يريدهما، وضاق ذرعًا بفسادهما وتحكمهما بأرزاق الناس وأعناقهم.

إرباك السلطة

ظنت السلطة أن الثوار في الشوارع سرعان ما سيملون، وسيعودون إلى حياتهم الطبيعية، متناسين هذا الحراك. لكن، ما حصل في قرابة شهر من عمر هذه الثورة أربك السلطة وأحزابها فعليًا، خصوصًا عندما رأوا إصرار الشباب على الاستمرار حنى الرمق الأخير، أو تحقيق الأهداف المعلنة، خصوصًا محاسبة الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة، وتأليف حكومة مستقلة من اختصاصيين، وعندما شاهدوا منسوب الوعي العالي عند طلاب لبنان الذين نفذوا تظاهرات حاشدة وأقفلوا البلد وشلوا الحركة الحكومية والمصرفية والتربوية.

أمام هذا الإصرار الشعبي، كان جليًا الارتباك في صفوف السلطة، خصوصًا في أعلى هرم السلطة، أي رئيس الجمهورية الذي اضطر أنصاره إلى إطلاق تظاهرة إلى القصر الجمهوري لدعمه، والذي هيّج مشاعر الثوار في لقاء متلفز أجراه خيب آمال من انتظر منه، في أقل تقدير، تعيينًا لمواعيد الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس للحكومة. إن تأخير عون إجراء هذه الاستشارات تمهيدًا لتكليف من يشكل الحكومة مرده إلى معرفة الجميع، حتى حزب الله، أن الشارع اللبناني لن يرضى بحكومة فيها سياسيون، خصوصًا سياسيون يرفضهم، في مقدمهم وزير الخارجية جبران باسيل.

وحزب الله مربك أيضًا، إذ يقف أمام خيارين: الخروج من المعادلة السياسية اللبنانية التي تقدم له التغطية التي يحتاج إليها اليوم، أو المبادرة عسكريًا إلى قمع الثورة، بحجج واهية، مثل "منع إقفال طريق الجنوب!".&

ظاهرة طرابلس

من الظواهر التي ميزت هذه الثورة "ظاهرة طرابلس" التي سماها الثوار "عروس الثورة". ففي السابق، اصطبغت هذه المدينة الشمالية بصبغة "جهادية" إسلامية.&

منذ الثمانينيات، كان هناك حركة التوحيد الإسلامي التي كانت تسيطر على المدينة بدعم من الاستخبارات السورية. اندحرت هذه الحركة، لكن الميل الإسلامي بقي نافرًا في طرابلس.

مع اندلاع الثورة السورية وعسكرتها، تداعى بعضٌ من شباب طرابلس إلى نصرة إخوانهم السوريين، فانضم منهم قلة إلى جبهة النصرة وقلة أخرى إلى تنظيم الدولة الإسلامية. لكن، وعلى الرغم من أن طرابلس ترتع في فقر مدقع حيث تناستها كل الحكومات اللبنانية المتعاقبة (وبينها نجيب ميقاتي، ابن طرابلس الثري) ولم يشملها أي برنامج للإنماء.

إلا أن الثورة اللبنانية نفضت الغبار عن وجه طرابلس الحقيقي، فظهرت خزان الثورة والثوار، مبادرة قبل غيرها إلى قطع الطرقات، وإعلان العصيان المدني، وأقامة ليالي الثورة في ساحة "النور" لإنشاد الأناشيد الثورية، وإقامة خيام تجرى فيها حلقات نقاشية في شؤون سياسية واقتصادية واجتماعية راهنة.

لا قيد طائفيًا

كان مميزًا فعلًا خروج طرابلس، ولبنان كله، من القيد الطائفي إذ تتابعت حلقات التعاضد بين طرابلس السنية والنبطية الشيعية. وكان هذا جليًا أيضًا في توحد اللبنانيين على دم أبو فخر. وفي يوم تشييعه، صدحت مآذن المساجد بالآذان، ودقت أجراس الكنائس في كل لبنان، وأشعلت الجماهير الثائرة الشموع تحت صور الشهيد في أرجاء مختلفة من البلد. كما بان التأثر على وجوه الناس في الشوارع والدموع في عيونهم في مناطق لبنان المختلفة، منادين بأن يكون سقوط أبو فخر رافدًا للتخلي عن الانتماء الطائفي والحزبي والتمسك بالانتماء الوطني وحده.

هذا الأمر غاية في الأهمية في دولة يقوم نظامها أساسًا على معادلة "ستة وستة مكرر"، اي أن يتعادل المسيحيون والمسلمون في الوظائف، وأن يكون الانتماء الطائفي المقياس الأول للتوظيف، وأن تنحصر الرئاسة الأولى بالموارنة، والرئاسة الثانية بالسنة، والثالثة بالشيعة.

لطالما أجج زعماء الطوائف طوائفهم على الطوائف الأخرى في جولات من شد العصب، كي يبقوا متربعين على عروشهم... هذه العروش التي يهزها اليوم هتاف الثوار "الشعب يريد إسقاط النظام".