لم تنسج الرياض وأبو ظبي العلاقة المتينة بينهما أخيرًا، إنما نسجتاها من قبل حتى أن تنشأ دولة الإمارات العربية المتحدة، التي ساهمت السعودية جديًا في تذليل كل العقبات أمام قيام الاتحاد. ويستمر هذا النسيج أمتن فأمتن، يومًا بعد يوم.

إيلاف من دبي: يُحكي الكثير على متانة العلاقات السعودية الإماراتية، على الصعد كلها. فتحليل هذه العلاقة الاستراتيجية بين الرياض وأبو ظبي هي محط أنظار الأصدقاء والخصوم على السواء. فالأصدقاء يعلقون كل آمالهم الوحدوية، العربية والخليجية والإسلامية، على هذا التوجّه الاتحادي، لأنهم يجدون فيه ما يحميهم من أطماع توسعية وإرهابية كثيرة تحيق بهم، والأعداء يتطلعون إلى التعاون السعودي – الإماراتي المتين سدًا منيعًا أمامهم، يمنعهم من تحقيق أهدافهم.

ربما يكون أفضل من يتناول العلاقات بين الرياض وأبو ظبي تركي الدخيل، سفير خادم الحرمين الشريفين لدى دولة الإمارات العربية المتحدة، من خلال كتابه "العلاقات السعودية – الإماراتية في ضوء التحديات المشتركة"، الذي نشره مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ضمن سلسلة محاضرات الإمارات، والذي يستند في الأساس إلى نص محاضرة ألقاها الدخيل في المركز في 31 يوليو 2019.

فلسفة التحالف
تحت عنوان فرعي "فلسفة التحالف: جذور التاريخ تغذّي الحاضر"، يسهب الدخيل في توصيف العلاقات بين دول الخليج العربية، فيقول إنها محكومة بخصوصية تشابه التكوين الاجتماعي؛ والإنساني والديني واللغوي والجغرافي والتاريخي. فالعلاقات بين السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة لم تبدأ أخيرًا، بل تمتد طوال تاريخ الدولتين، "بل قبل قيام كل من الدولتين في شكلها الرسمي الراهن؛ فقبل إعلان اتحاد الإمارات عام 1971 كانت حبال الصلة بين إمارات الاتحاد السبع والسعودية ممدودة، خاصةً أن السعودية هي أرض الحرمين الشريفين، والشقيقة الكبرى لإمارات الخليج بعامة؛ فدعمت الرياض الاتحاد منذ كان تساعيًا يشمل البحرين وقطر".

لا يفشي الدخيل سرًا حين يقول إن التاريخ شهد مواقف مشتركة للدولتين; ونشأ عنها علاقات جعلت التنسيق المشترك نهجًا في تدبير الشأنين العربي والإقليمي، فلذلك شواهد: دعمهما مصر في حرب أكتوبر 1973؛ وقفهما تصدير النفط إلى الدول المعتدية على مصر؛ دحر غزو الرئيس العراقي السابق صدام حسين للكويت في عام 1991؛ موقفهما المشترك من أحداث الفوضى في عام 2011؛ دعمهما الحاسم استقرار مملكة البحرين في عام 2011 بتدخل قوات درع الجزيرة.

رصيد من الواقعية
بني التنسيق السعودي−الإماراتي على رصيد من الواقعية المستمدة من الخبرة السياسية للدولتين وتجاربهما الداخلية، ويمكن – بحسب الدخيل – أن نطلق عليه ذاكرة الأخلاق السياسية للتحالفات في عقل صانعي القرار. ولهذا، فهم التحالف بين الدولتين وتفسيره لا يقتصران على سرد المصالح الراهنة فحسب، بل العودة إلى المعطيات التاريخية التي تكشف عن قيمة فكرة "الأحلاف" في العقل السياسي والاجتماعي للدولتين.

للدولتين واقع تاريخي يتشبع بقيمٍ تمجِّد مثل هذه التحالفات القبلية والسياسية؛ "فما أكثر التحالفات في التاريخ الإماراتي، "وكانت تعبر عن الحلف القبلي والسياسي، ومنها مثلًا حلف بني ياس، والحال نفسها تنطبق على النموذج السعودي الذي احتوى على أحلاف قبلية ومصالحات متعددة، وخطوات امتدت ثلاثة قرون، مرت خلالها بثلاث دول سعودية، ويمتد عمر الدولة السعودية الثالثة (الحالية) نحو تسعين عامًا".

مساهمة سعودية بناءة
كان للمملكة العربية السعودية دور بناء في قيام الاتحاد الذي أنتج دولة الإمارات العربية المتحدة. فقد أسهمت المملكة، حتى قبل قيام الاتحاد، في دعم البنية التحتية الإماراتية منذ ستينيات القرن الماضي، "ومن أهم المشروعات التنموية التي تحملت السعودية نفقتها الطريق الذي يربط دبي برأس الخيمة، الذي أنجز في عام 1969".

يصف الدخيل إعلان بريطانيا المتعجل والمفاجئ عن انسحابها من شرق قناة السويس في عام 1968 بأنه حدث كبير ومفصل فارق في تاريخ المنطقة، مؤداه الاستراتيجي إعادة صياغة المنطقة من جديد. يقول: "تضاعفت الجهود السعودية الداعمة لتأسيس الاتحاد، لإدراكها أن أي تأخير ستكون نتيجته تمدد إيران، وتغوُّل غيرها في دول الخليج العربية؛ فسارعت اللجان ذات الصلة برفد القيادة بالمقترحات الملائمة، وسعت الوزارات المتخصصة إلى حشد الدعم الإقليمي للاتحاد العربي المقبل، وضمن هذه الجهود زار الملك فيصل بن عبدالعزيز الكويت في الثامن من أبريل 1968، واتفق مع أميرها الشيخ صباح السالم الصباح (1913 – 1977) دعم اتحاد الإمارات، وحثه على التنسيق معها، وأكد الطرفان ضرورة حلّ كل الخلافات التي قد تقف عائقًا أمام نجاح الاتحاد".

سعي توافقي
سعى الملك فيصل إلى بذل دور توافقي بعد تباين وجهات نظر الإمارات التسع. ويقول الدخيل إن حكام الإمارات تلقوا المساعي السعودية لصنع التوافق بالترحاب، "إدراكًا منهم أن الخطر الداهم يحتاج دعم العرب لبعضهم بعضًا؛ فظهرت رغبة إماراتية في تفعيل الدور السعودي لإنجاح تأسيس الاتحاد".

عندما أسِّس اتحاد الإمارات في الثاني من ديسمبر 1971، رحبت به المملكة ترحيبًا واسعًا، واحتفت الصحافة السعودية به مشيدة بجهود المملكة في دعمه، وتضمنت تغطيات الصحف السعودية لانطلاقة الاتحاد أمنياتها بانضمام رأس الخيمة إلى الدولة الاتحادية الوليدة. وتوسَّط الملك فيصل بن عبدالعزيز لضمان انضمام رأس الخيمة إلى الاتحاد في أسرع وقت، فأقنع الشيخ صقر بن محمد القاسمي، حاكم رأس الخيمة، بالاستعجال في الانضمام إلى الاتحاد.

والمتانة مستمرة
كانت المنطقة بؤرة توتر حاد. وهذا استدعى، بحسب الدخيل، تعاونًا وثيقًا وتشاورًا وتنسيقًا أمنيًا بين دولها، بما يضمن أمن دول الخليج العربية واستقرارها؛ "فإن وزير الداخلية السعودي آنذاك، الأمير نايف بن عبدالعزيز، حمل في أكتوبر 1976 إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، ضمن جولة شملت دول الخليج، اقتراحات سعودية لتوثيق التعاون الأمني عبر توقيع اتفاقيات أمنية مشتركة مع بلاده، ما أثمر توقيع دولة الإمارات العربية المتحدة اتفاقية أمنية على الفور مع السعودية، على رأس أولوياتها تبادل المعلومات، لتكون دولة الإمارات العربية المتحدة أولى الدول التي وقَّعت اتفاق تعاون أمني مع السعودية.

منذ ذلك الحين، وحتى اليوم، ما زالت قوة العلاقات بين الرياض وأبو ظبي مثار الكثير من الكلام السيايس والتحليل الاستراتيجي. وفي رأس هذا الكلام تصريحات أدلى بها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، إثر لقائه الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز في أغسطس 2019 في مدينة جدة السعودية؛ إذ قال: "الإمارات والسعودية تقفان معًا بقوة وإصرار، في خندق واحد، في مواجهة القوى التي تهدد أمن دول المنطقة وحق شعوبها في التنمية والتقدم والرخاء".