تشارلز ديكنز الذائعُ الصيت يُعد من أعظم الروائيين الإنكليز في العصر الفيكتوريِ، اكتنفت مسألتا وفاته المفاجئة ودفنه الكثير من الغموض، حتى إماطة اللثام أخيرًا عن معلومات كثيرة ساهمت في كشف اللغز.

"إيلاف" من بيروت: يكشف الباحث ليون ليتفاك في بحث جديد عن تفصيلات لم يسبق استكشافها بشأن الموت المفاجئ للروائي البريطاني الكبير تشارلز ديكنز ودفنه.

كان تشارلز جون هوفام ديكنز، المولود في 7 فبراير 1812 في بورتسماوث جنوبي إنكلترا، ثاني ثمانية أطفال. والده جون ديكنز كاتب بحرية، وحلم بأن تجعله هذه المهنة غنيًا. في عام 1858، بدأ مسيرته المهنية قارئًا محترفًا لأعماله الروائية، واستمتع آلالاف بسرده الممتع. حدث هذا التطور في مسيرته في الوقت الذي وصلت فيه مشاكله الزوجية إلى ذروتها: لقد وقع في حب إيلين تيرنان، الممثلة البالغة من العمر 18 عامًا، وانفصل عن زوجته كاثرين، التي أنجب منها عشرة أطفال.

كان ديكنز، بحسب ليتفاك، حريصًا على الحفاظ على علاقة حبه الخاصة. لذلك نجد أن الوثائق التي تتطرق إلى علاقته مع تيرنان نادرة للغاية. لقد أراد أن يأخذها معه في جولة قراءة إلى أميركا في عام 1868، وحتى أنه طور رمزًا تلغرافيًا للتواصل معها.

وفاته

في يوم الأربعاء 8 يونيو 1870، كان ديكنز يعمل على روايته "إدوين درود" في حديقة منزله الريفي، جادز هيل بليس، بالقرب من روتشستر. وعندما دخل إلى المنزل لتناول العشاء مع شقيقة زوجته، جورجينا هوغارث، أصيب بجلطة دماغية. تم استدعاء الطبيب المحلي لكنه لم يتمكن من إنقاذه. وسرعان ما تم إرسال برقية إلى لندن لاستدعاء جون راسل رينولدز، أحد كبار أطباء الأعصاب حينذاك. لكن كل هذه الجهود لم تنجح وأُعلن عن وفاته بحلول اليوم التالي.

كل المعطيات المتعلقة بوفاة ديكنز ودفنه معتمدة على كتاب جون فورستر "حياة تشارلز ديكنز". كان فورستر أقرب صديق للمؤلف وأحد المقربين من عائلته. وكان مطلعًا على معظم تفصيلات حياته، بما في ذلك الوقت الذي أمضاه ديكنز في مستودع للطلاء الأسود عندما كان صبيًا (كان سرًا، حتى كشفه فورستر في كتابه)، والعلاقة مع تيرنان (التي لم يكشف عنها فورستر، وظلت مخبأة طويلًا). وسعى فورستر إلى حماية سمعة ديكنز بأي ثمن.

مكان الدفن

أشار فورستر إلى أن مكان دفن ديكنز المفضل بحسب الخطة "أ" كان في مقبرة صغيرة تحت جدار قلعة روتشستر، أو في كنائس كوبهام أو شورن الصغيرة، التي كانت جميعها بالقرب من منزله. لكنهم اكتشفوا لاحقًا أنها لم تكن متوافرة، حيث أوضح في كتابه أنها كانت مغلقة.

تم وضع الخطة "ب" موضع التنفيذ. كان من المقرر دفن ديكنز في كاتدرائية روتشستر، وحفروا قبرًا للرجل العظيم. لكن هذه الخطة أيضًا تم إبطالها، ليُدفن في ركن الشعراء، في دير وستمنستر، المكان الذي يرقد فيه جيفري تشوسر وصموئيل جونسون وأدباء عظماء آخرون.

حظي ديكنز بجنازة خاصة في وقت مبكر من صباح يوم الثلاثاء 14 يونيو 1870، وتُرك قبره مفتوحًا مدة ثلاثة أيام حتى يتمكن الجمهور من تقديم احترامهم لأحد أشهر شخصيات العصر.

مآرب شخصية

يكشف تحقيق ليتفاك أن دفن ديكنز في ركن الشعراء كان من تصميم فورستر ورجل الكنيسة آرثر بنرين ستانلي لتحقيق أهدافهما الشخصية بدلًا من أهداف المؤلف العظيم. وبينما كانت القصة الرسمية تشير إلى أن "إرادة الشعب" أن يُدفن ديكنز في الدير (وكانت هناك مقالات في مجلة "التايمز" بهذا المعنى)، فإن الواقع كان أن هذا التغيير يلائم كلًا من كاتب السيرة ورجل الكنيسة.

كانت رؤية فورستر تتلخص بالآتي: من خلال جعل ديكنز يدخل في البانتيون الوطني حيث دُفن الكثير من الشخصيات الأدبية الشهيرة، سيحظى فورستر بالشهرة؛ إذ إن زيارة عدد هائل من الناس قبر ديكنز، ستنشر اسم فورستر على نطاق واسع، للأجيال المقبلة.

أما ستانلي فأراد أن يضيف ديكنز إلى قائمة الأشخاص المشهورين الذين قام بدفنهم إلى حانب اللورد بالمرستون، رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق، والسير جون هيرشل عالم الرياضيات والفلكي، والمبشر والمستكشف ديفيد ليفينغستون.

مذكرات لوكر

تم جمع الأدلة الجديدة التي وجدها ليتفاك من المكتبات ودور المحفوظات وأقبية الكاتدرائيات، وهي تدحض دون أدنى شك أي ادعاءات حول إرادة الشعب بدفن ديكنز في وستمنستر.

التقى ستانلي مع ديكنز في عام 1870، وجمعهما فريدريك لوكر، صهر ستانلي، الذي كان صديقًا أيضًا للروائي الشهير. وأورد ستانلي في مجلته الخاصة (الموجودة الآن في أرشيفات وستمنستر آبي) أنه "صُعق بشدة" خلال محادثته مع ديكنز، وأعرب عن تقديره للفرص القليلة المتاحة له لمقابلة المؤلف قبل وفاته.

تسجل مذكرات لوكر أيضًا محادثة مثيرة للاهتمام أجراها مع ستانلي قبل اجتماع عام 1870، يلقي فيها الضوء على موقف رجل الكنيسة تجاه الروائي ووفاته وجنازته. ويكتب لوكر عن التحدث إلى ستانلي "عن المدافن في الدير" وعن تعبير ستانلي عن رغبته في دفن ديكنز بعد وفاته.

عندما فارق ديكنز الحياة، نقل لوكر الخبر إلى ستانلي، ورد رجل الكنيسة بالقول: "واحسرتاه! كنا نظن أن خبر الوفاة لن يكون قريبًا. لا يمكنني أن أعبر عن مدى شكري وتقديري لإتاحة الفرصة لي لمقابلة تشارلز ديكنز عندما سنحت الفرصة. أنا مستعد تمامًا لأساعد بأي مقترحات بشأن الدفن".

ادعاءات كاذبة

يضيف ليتفاك أن فكرة دفن ديكنز في ركن الشعراء تطورت في مخيلة ستانلي بعد سماعه خبر الوفاة. كتب إلى قريبته لويزا يوم السبت 11 يونيو ليقول: "لم ألتقِ ديكنز حتى هذا العام... والآن رحل... وأريد أن أدفنه". من المثير للاهتمام كيف تبلورت الخطة بسرعة في ذهن رجل الكنيسة. في غضون 48 ساعة، انتقل من مقترحات افتراضية من الأسرة للدفن، إلى التنبؤ بدور رئيسي لنفسه في إجراءات الجنازة.

مع ذلك، لم تكن إجابة نجل ديكنز تشارلي سريعة. انتظر ستانلي حتى صباح يوم الاثنين الموافق 13 يونيو، قبل أن يبحث عن وسيلة أخرى لإعلان تمنياته للعائلة. لقد تواصل مع صديقه اللورد هوتون (ريكارد مونكتون ميلنيس سابقًا، شاعر وسياسي وصديق لديكنز)، وكرر استعداده "لتلقي أي اقتراح لدفن ديكنز في الدير".

كان فورستر بعيدًا في كورنوال عندما توفي ديكنز، واستغرق الأمر يومين ليصل إلى جادز هيل. عندما وصل إلى منزل ديكنز يوم السبت 11 يونيو، شعر بالحزن الشديد على صديقه وأصابه الذهول من هول الفاجعة. وكانت أفكاره الأولى، وأفكار العائلة المباشرة، هي تحقيق رغبات ديكنز ودفنه قرب المنزل.

بعد أن وُضعت اللمسات الأخيرة على الدفن المقترح في كاتدرائية روتشستر، ظهرت مقالة في مجلة "التايمز" البريطانية تطالب بدفن ديكنز في الدير. وأضافت: "عندما يتجمع الإنكليز لمراجعة النصب التذكارية للسادة والمدرسين العظماء في أمتهم، ينبغي ألا يغيب رماد واسم أكبر معلم في القرن التاسع عشر".

انتشرت هذه المقالة كالنار في الهشيم. تعليقًا عليها، قال فورستر لستانلي: "أتصور أن المقال في التايمز يجب أن يكون مكتوبًا بموافقتك؟" أجاب ستانلي: "لا، لم يكن لدي أي اهتمام به، لكن في في نفس الوقت أنا أوافق على هذا الأمر إذا كان مطلوبًا".

تحريف الحوادث

يبدو واضحًا من المراسلات الخاصة التي درسها ليتفاك أن ستانلي خطط لموضوع دفن ديكنز في الدير، أما تصرفات فورستر فكان يُصعب تتبعها. ترك عددًا أقل من الأدلة حول نواياه ودمر جميع ملاحظاته العملية عن سيرته الذاتية الضخمة المكونة من ثلاثة مجلدات لديكنز والتي تضمنت وثائق عديدة ورسائل للمؤلف البريطاني.

لكن، إلى جانب إظهار كيف زعم فورستر زورًا في سيرته الذاتية أن المقابر القريبة من منزله كانت "مغلقة"، يكشف بحث ليتفاك أيضًا كيف غيّر كلمات خطبة ستانلي (المنشورة) في الجنازة لتلائم روايته الخاصة للحوادث. نقل فورستر عن ستانلي قوله "أن قبر ديكنز سيكون من الآن فصاعدًا مقدسًا في كل من العالم الجديد والقديم، لكونه يمثل الأدب وكل الذين يتحدثون لغتنا الإنكليزية، وليس هذه الجزيرة فحسب". وهذا بالتأكيد اقتباس خاطئ للخطبة وتحريف واضح.

من قبر إلى مزار

يوضح بحث ليتفاك أن الروايات الرسمية والمصرح بها عن حياة ووفيات الأثرياء والمشاهير مفتوحة أمام السؤال والتحقيق الجنائي، حتى بعد فترة طويلة من كتابة تاريخها وقبولها كقانون.

يقع قبر ستانلي بالقرب من مرقد ديكنز، وكفل ذلك أن يصبح قبره محجًا، حيث يأتي الجميع ليقدم لهما الاحترام، بما في ذلك أمير ويلز، الذي وضع إكليلًا من الزهور على قبر ديكنز في عام 2012، لمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاده.

إن الاحتفال بذكرى وفاة المؤلف البريطاني أو ولادته يرمز إلى مدى أهمية ديكنز في الثقافة الوطنية لبريطانيا. مع ذلك، لم يكن أي من ذلك ممكنًا ليتحقق لولا صديق ديكنز، جون فورستر، الذي قام بتنظيم الجنازة في دير وستمنستر وفقًا لرغبات ديكنز، وتأكد من أن تحضر حبيبته إيلين ترنان بحذر، وأن تغيب زوجته. ومن خلال دفنه في ركن الشعراء، رُبط ديكنز في أذهان الجمهور بمُثُل الحياة الوطنية والفن إلى الأبد.

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن " ذا كونفرسايشن". الأصل منشور على الرابط:
https://theconversation.com/charles-dickens-newly-discovered-documents-reveal-truth-about-his-death-and-burial-130079