باريس: غيّبت الموت يوم 19 فبراير 2020 الكاتب والصحافي اليهودي الجزائري جان دانيال مؤسس صحيفة "لو نوفال ابسرفاتور" عن سن 99 سنة. جان دانيال عُرف بقربه من تونس الاستقلال ومن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة.

كان جان دانيال عاشقا للجزائر، استذكر طفولته بالبليدة ورائحة ازهار البرتقال التي كانت تفوح في شوارع مدينة الورودو (حديقة باتريس لومومبا) - بيزو سابقا- التي كان يتجول فيها والحدائق الغناء التي كانت منتشرة في المدينة، وهو ما اعتبره مصدر الهامه في كتاباته.

فقبل مائة عام، ولد جان دانيال بن سعيد في 21 يوليو 1920 في مدينة بليدا الجزائرية التي كانت وقتها «جزءاً من فرنسا»، الدولة المستعمرة، من عائلة يهودية متواضعة؛ بل بالأحرى فقيرة، مكونة من 11 ولداً. والده جول بن سعيد، مسؤول المجلس اليهودي المحلي في بليدا، وأمه راحيل بن سيمون.

لو عاش جان دانيال خمسة أشهر إضافية، لكان بقي على هذه الأرض مائة عام. واللافت في هذا الرجل أنه بقي متمكناً من كل إمكانياته العقلية والذهنية، حتى رحيله؛ ذلك أن آخر كتبه التي تملأ المكتبات ويصل تعدادها إلى الثلاثين، صدر في عام 2016 بعنوان «ميتران المتفلت».

بمناسبة عيد ميلاده الـ99، قال عنه الفيلسوف الفرنسي وعالم الاجتماع أدغار موران، إن إنتاجه الصحافي غطى على غزارة إبداعاته الأدبية؛ لأن جان دانيال الذي بقي عقودًا عدة رئيساً لتحرير «لو نوفيل أوبسرفاتور»، المجلة التي اختارت أن تكون صوت اليسار المعتدل غير الشيوعي، كان كثيفًا في كتاباته ومتنوعاً في خياراته الأدبية. لكنه قبل ذلك كله، كان قارئاً نهماً، عايش أندريه جيد، وأندريه مارلو، وألبير كامو، وميشال فوكو، وكلها أسماء لامعة في فضاء الفلسفة والفكر والأدب. وتشبع دانيال من فلسفة معاصريه والسابقين، بانتمائه بداية إلى جامعة الجزائر، قسم الفلسفة، ثم التحاقه، بعد الحرب، بجامعة السوربون في «الحي اللاتيني» في القسم عينه.

صادق الأدباء والشعراء والفنانين والمبدعين وأهل السياسة، وأحياناً أهل السلطة، عندما كانت هذه الأخيرة بأيدي أصدقائه من اليسار. وفي اليسار، كان جان دانيال من أشد المتحمسين لحكومة الاشتراكي ليون بلوم، في أواسط الأربعينات الذي يبقى - بالنسبة إلى الفرنسيين - رمزاً للاشتراكية الناجحة التي أحدثت تغييرات في المجتمع لمصلحة الفئات الأكثر هشاشة. وفي الفترة نفسها وفي سن السادسة والعشرين، عايش جان دانيال الحكم من الداخل، بانتمائه إلى مكتب رئيس الوزراء الموقت فليكس غوين؛ لكن هذه التجربة لم تدم طويلاً؛ إذ إنه كان يبحث عن شيء آخر.

خلال الثورة الجزائرية كلف بتغطية حرب التحرير مما ولد لديه التعاطف والمساندة للجزائر حيث اشتهر بروبورتاجاته المنددة للتعذيب. كما ساند مفاوضات جبهة التحرير الوطني للحصول على استقلال الجزائر (ايفيان).

من بين مؤلفاته: "ديغول و الجزائر : التراجيديا الابطال والشهود" سنة 1986 "رسائل فرنسا بعد 11 سبتمبر" سنة 2002 "هذا الاجنبي الذي يشبهني" سنة 2004 و"غدا الامة" سنة 2012. بينما كانت غالبية معاصريه مصرة على بقاء الجزائر تحت الهيمنة الفرنسية. لم يكن جان دانيال رجل فكر وأدب فقط؛ بل كان أيضاً رجل اقتناع والتزام. ولعل أبرز ما يدل على ذلك التحاقه بالمقاومة الفرنسية التي حاربت القوات الألمانية النازية ملتحقاً بالجنرال لوكلير الشهير، قائد الكتيبة المدرعة الثانية التي كانت الأولى في الوصول إلى باريس وتحريرها.

إلا أن طموحات الصحافي الأبرز في جيله كانت في مكان آخر. وجاءت أولى تجاربه المهنية من خلال تأسيس مجلة أدبية في عام 1947، كانت تسمى «كاليبان». بعدها عبر إلى الصحافة السياسية بانتمائه إلى مجلة «الأكسبريس» لصاحبها جان جاك سرفان شرايبر، التي كانت سباقة في بث روح حداثية. وأهمية هذه المرحلة بالنسبة إلى جان دانيال؛ لأنها مكنته من العودة إلى الجزائر مراسلاً لـ«الأكسبريس»؛ حيث ترسخت قناعاته لجهة ضرورة منح الجزائر استقلالها بعد 132 عاماً من الاستعمار الفرنسي. ويكفي لإبراز الدور الذي لعبه جان دانيال في الدفع لاستقلال الجزائر، أنه تلقى تهديدات بالقتل، كما إنه وجهت إليه اتهامات بتهديد أمن الدولة.

في هذا السياق، قال عنه الرئيس الاشتراكي السابق فرنسوا هولاند، اثرى وفاته، إن دانيال «كان بمثابة الضمير الذي وعى ضرورة التخلص من الاستعمار، وقد ساهم بذلك من خلال كتاباته وأفعاله، مغامراً حتى بحياته».

لم تكن الجزائر الهم الوحيد لـجان دانيال. فقد دافع أيضاً عن استقلال تونس؛ لا بل إنه أصيب برصاص الجيش الفرنسي في عاصمتها عام 1961.

وكتب الرئيس ماكرون في تغريدة: «فرنسا خسرت بوفاته ضميراً؛ لأنه أحد الرجال الذين يصنعون التاريخ بقوة ريشتهم وحدها»، واصفاً إياه بأنه «معلم من معالم الصحافة، والطليعة التي أنارت درب اليسار». وقال عنه أوليفيه فور، أمين عام الحزب الاشتراكي، إن «اليسار في حالة حزن».

وقال وزير الثقافة، فرانك ريستر، إن دانيال «كان يجسد صحافة الأفكار والقناعات... كان شاهداً على عصره، وواكب بقلمه كبريات الأحداث في العقود الأخيرة».