القدس: قبل ستين عاما، وبعد إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك ديفيد بن غوريون اعتقال أحد مهندسي "الحل النهائي" لإبادة اليهود في أوروبا أدولف أيخمان، تلقى غابرييل باخ اتصالا هاتفيا مهما سيغير حياته إلى الأبد.

وقد اعتقل فريق تابع للموساد في الأرجنتين أيخمان في 11 مايو 1960، وكان يعيش هناك باسم مستعار. وكشف عن العملية في 23 من الشهر نفسه. ونُقل أيخمان مخدّرا الى إسرائيل حيث قُدّم الى المحاكمة.

بعدها بأيام، تلقّى المدّعي العام الإسرائيلي حينها غابرييل باخ المولود في ألمانيا مكالمة هاتفية من وزير العدل بنحاس روزن الذي طلب منه أن يتولّى التحقيق في القضية.

يروي أيخمان (93 عاما) لوكالة فرانس برس من منزله في القدس أن روزن باخ قال له "السيد باخ، أعتقد أنك ستكون أحد المدعين العامين في القضية لكن لدي طلب آخر، أود أن تكون مسؤولا عن التحقيق".

في المحاكمة التي بدأت في أبريل 1961، كان المدعي العام الإسرائيلي جدعون هاوزنر هو المدّعي العام الرئيسي في القضية إلى جانب نائبه باخ.

وقاد باخ التحقيق الذي سبق المحاكمة والذي استمر أشهرا قبل أن ينتقل من القدس إلى شمال إسرائيل حيث تم إخلاء سجن كامل من أجل احتجاز أيخمان. في السجن الذي تمّ تغيير اسمه الى "معسكر إيار"، اختار باخ فريقا مكونا من أربعين ضابطا لاستجواب أيخمان وجمع أدلة ضده.

ويقول باخ المتقاعد اليوم إن قضية أيخمان لا تزال تلاحقه بعد ستين عاما. "لا يمرّ يوم دون أن أتذكر شيئا ما أو دليلا ما أو لحظة معينة من محاكمة أيخمان". يشير مثلا الى توبيخ أيخمان زملاءه النازيين الذي بدوا مترددين في مسألة إجبار الأطفال اليهود على دخول غرف الغاز.

بطاقات بريدية من أوشفيتز
وكان باخ سمع روايات مرعبة عن أيخمان قبل أن يلتقي به. بينها كيف أجبر أيخمان نزلاء معسكرات الإبادة على كتابة بطاقات بريدية لأقاربهم وأصدقائهم يصفون فيها جمال أوشفيتز لعلها تحفزهم على ركوب القطارات التي ستقلهم إلى نهايتهم.

في أول حديث جمع الرجلين، أبلغ باخ أيخمان أنه يقود التحقيق. ويقول اليوم "أخبرته أنني على استعداد للتحدث معه حول ما إذا كانت لديه أي مشاكل خاصة، جسدية أو غير ذلك، أو متعلقة بأسرته".

بعدها، قلّل باخ من اتصاله المباشر بأيخمان ليضمن عدم تسريب عناصر من التحقيق اليه. وأعطى الشرطة تعليمات يومية حول كيفية إجراء الاستجواب.

وأبلغ المدعي العام أيخمان أنه سيكون لديه محامي دفاع من اختياره. واختارت عائلته المحامي الألماني روبرت سيرفاتيوس ليدافع عنه. وفي جلسة مثل فيها المتهم أمام المحكمة، عرضت عليه لقطات من معسكر الموت النازي الذي كان المدعون العامون يعتزمون عرضها كدليل.

ويستذكر باخ أن أيخمان كان متوترا خلال عرض اللقطات فسأله باخ عما يزعجه. فشكا أيخمان أنه "وُعد بأنه لن يتمّ اصطحابه إلى قاعة المحكمة إلا وهو يرتدي بزته الزرقاء الداكنة، لكن أعطي بزة رمادية". أصر أيخمان حينها، وفق ما يقول باخ، على أنه كان "ينبغي عليه ألا يعده بشيء كهذا طالما لن يتمكن من الإيفاء بوعده".

الزجاج المكسور
ولم يكن أيخمان أول نازي يواجهه باخ الذي نشأ في برلين. وكان يتعلم في مدرسة في منطقة تمّ تغيير اسمها ليصبح ساحة أدولف هتلر. وغادر باخ ألمانيا في العام 1938 خلال السنوات الخمس الأولى من الحكم النازي.

تمكن من مغادرة ألمانيا قبل أسبوعين من ليلة "الزجاج المكسور"، عندما دمّر النازيون ألمانيا وأحرقوا الكنس اليهودية ونهبوا المصالح التجارية وقتلوا عشرات اليهود.

وتعود الذاكرة بباخ إلى لحظة تواجده في محطة القطار المتجه إلى هولندا وكيف أن ضابطا نازيا قام بركله. ويقول "لقد طردت من ألمانيا بالمعنى الحرفي للكلمة". وانتقل باخ بعد إقامته في هولندا إلى فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني السابق.

وجذبت محاكمة أيخمان في القدس اهتماما دوليا كبيرا وساعدت على تشكيل فهم عالمي للمحرقة من خلال وفرة الأدلة المقدمة.

ويقول باخ إنه كان متأكدا من الإدانة، لكن فهم أن العديد من اليهود يعارضون عقوبة الإعدام. وكانت لدي تحفظ هو الآخر على عقوبة الإعدام، لكن يعتبر أن في الإمكان تبريرها في جرائم الإبادة الجماعية.

وحكم على أيخمان بالإعدام شنقا في 15 ديسمبر 1961، بعد رفض طلب العفو الذي قدمه الى الرئيس الإسرائيلي حينها إسحاق بن زفي.

في أواخر مايو 1962، علم المدعون العامون أن الرئيس على وشك اتخاذ قراره، لكن كان هناك انقسام حول موعد التنفيذ.
وقال البعض إن لا داع للعجلة. لكن باخ لم يوافق على ذلك، خشية أن يقدم مؤيد للنازية على خطف طفل يهودي والتهديد بإيذائه في حال إعدام أيخمان. وتمّ إعدام أيخمان في منتصف الليل في الأول من يونيو 1662.