بيروت: تعهدت السلطات اللبنانية الجمعة ضخّ مزيد من العملة الأميركية في السوق لِلجم الانهيار غير المسبوق للّيرة المحلية، الذي أثار احتجاجات ليلية وقطعاً للطرق في أنحاء البلاد الغارقة في دوامة انهيار اقتصادي متسارع.

في طرابلس بشمال البلاد، فرّق عناصر الجيش في الساحة الرئيسية للمدينة مئات المتظاهرين الذين هتفوا "ثورة، ثورة"، وهو ما أدى إلى اندلاع اشتباكات، حسب مراسل وكالة فرانس برس.

وألقى متظاهرون حجارة وقنابل مولوتوف على الجنود، وألحقوا أضرارا بواجهات عدد من المتاجر والمصارف. ورَدّ الجنود بإطلاق الغاز المسيل للدموع.

وقال وائل (17 عاما) "أنا عاطل عن العمل، لم أكمل دراستي، وليس لديّ أيّ مدخول".

أضاف "أريد فقط وظيفة حتّى أستطيع العيش، ولا تعنينا كلّ قراراتهم، ولا نصدّق كلّ إجراءات تخفيض سعر الدولار التي تتّخذها الحكومة".

في وسط بيروت، قال مراسل فرانس برس إنّ عشرات الشبّان أضرموا النار في عدد من المتاجر، قبل تفريقهم بالغاز المسيل للدموع.

وقال مهنا (25 عاما) وهو أحد سكان معقل لحزب الله في جنوب بيروت، لفرانس برس "نحن في الضاحية كمان جوعانين (..) بَطَّل فينا نشتري ربطة خبز".

وكان مئات اللبنانيين قد نزلوا إلى الشوارع ليل الخميس الجمعة في طرابلس وعكار شمالاً، وصيدا وصور جنوباً وفي البقاع شرقاً، وفي بيروت. وأحرقوا إطارات ومستوعبات نفايات وقطعوا طرقاً رئيسة وفرعية، وهتفوا ضد حكومة حسان دياب.

والجمعة، قطع متظاهرون طرقاً عدّة، فيما تدخّل الجيش لفتحها. كما تظاهر عشرات ليل الجمعة أمام مقرّ المصرف المركزي في العاصمة بيروت.

يأتي تدهور الليرة اللبنانية في وقتٍ تعقد السلطات اجتماعات متلاحقة مع صندوق النقد الدولي أملاً بالحصول على دعم مالي يضع حدّاً للأزمة المتمادية، في حين تقترب الليرة من خسارة نحو سبعين في المئة من قيمتها منذ الخريف.

وقال الرئيس ميشال عون في مستهلّ جلسة حكومية طارئة في القصر الرئاسي، أعقبت جلسة أولى قبل الظهر، "توصلنا إلى تدبير سيبدأ تنفيذه الاثنين المقبل يقوم على تغذية السوق بالدولار من قبل مصرف لبنان، وعليه، يُفترض أن يتراجع سعر الصرف تدريجياً".

ونقَلَ، وفق تصريحات نشرها حساب الرئاسة على تويتر، تأكيد خبراء ماليين أنه "لا يمكن للدولار أو أي عملة أخرى أن تقفز خلال ساعات إلى هذا الحدّ، وهذا ما يُبعد صفة العفوية عن كل ما حصل ويؤشر لمخطط مرسوم نحن مدعوون للتكاتف لمواجهته".

ولامس سعر الصرف، وفق ما أفاد صرافون وكالة فرانس برس ظهر الخميس، عتبة الخمسة آلاف ليرة مقابل الدولار، فيما نقلت وسائل إعلام محلية ليلاً أن السعر تجاوز الستة آلاف، رغم تحديد نقابة الصرافين سعر الصرف اليومي بنحو أربعة آلاف وفيما يبقى السعر الرسمي مثبتاً على 1507 ليرات.

وأكّد مصرف لبنان ليلاً أنّ المعلومات المتداولة عن سعر الصرف "بعيدة عن الواقع".

وطلب مجلس الوزراء من الأجهزة الأمنية "التشدّد في قمع جميع المخالفات وإحالتها فوراً على المراجع القضائية المختصة"، تزامناً مع إعلان الأمن العام توقيف خمسة أشخاص يقومون بعمليات صرافة في السوق السوداء.

وقال دياب في مستهل مجلس الوزراء إن البلاد "لم تعد تحتمل خضات إضافية (...)، ولا بدّ من اتخاذ اجراءات عملية تعطي مناعة أكبر للحكومة والدولة".

وعقد عون اجتماعاً ضمّ دياب ورئيس البرلمان نبيه بري، أعلن الأخير على أثره الاتّفاق على خفض سعر الصرف إلى ما دون أربعة آلاف ليرة.

"اللعبة انتهت"

يشهد لبنان أسوأ انهيار اقتصادي منذ عقود، يتزامن مع أزمة سيولة وتوقّف المصارف عن تزويد المودعين بأموالهم بالدولار. وتسبّبت الأزمة بارتفاع معدّل التضخّم وجعلت قرابة نصف السكّان تحت خط الفقر، كما خسر عشرات الآلاف جزءاً من رواتبهم أو وظائفهم. وأقفلت مؤسسات وفنادق عريقة أبوابها.

وتعرّض عدد من فروع المصارف لتكسير واجهاته. وحاول محتجّون حرق فرع مصرف لبنان في طرابلس.

ودفع الانهيار الاقتصادي مئات آلاف اللبنانيين للخروج إلى الشارع منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019 ناقمين على الطبقة السياسية. وأسقطت التحركات آنذاك الحكومة برئاسة سعد الحريري. وتشكّلت مطلع العام حكومة جديدة قُدّمت على أنها "تكنوقراط"، لكنها حظيت بدعم واضح من حزب الله، القوة السياسية والعسكرية النافذة في البلاد.

وتراجعت وتيرة التحركات بعد إعلان إقفال عام لمواجهة وباء كوفيد-19 منذ منتصف آذار/مارس، لتنطلق مجدّدًا منذ أيام.

وتوقّف محلّلون وصحافيّون ومستخدمون لمواقع التواصل الاجتماعي عند مشاركة شبّان قادمين من مناطق نفوذ حزب الله في بيروت في الاحتجاجات الليلة الماضية، وإطلاقهم هتافات ضدّ الطائفية. بينما شهد تحرّكٌ السبت الماضي لـ"إعادة إطلاق الثورة"، خروجَ شبّان من المناطق ذاتها ذكرت تقارير أنهم أطلقوا هتافات طائفية ضد السُنّة ومناصِرة لحزب الله وضدّ المتظاهرين.

وغرّدت الإعلامية ديانا مقلد ليلاً حول هذا الموضوع "ما هي القصة، وما هو الفيلم الذي سيركب على وجع الناس؟". ووصف آخرون ما حصل بـ"التمثيلية"، في وقت رفع متظاهرون شعارات كتب فيها "كلنا جائعون".

وقال أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية عماد سلامة لوكالة فرانس برس إنّ "بعض الأطراف الموجودة في الحركة الاحتجاجية تريد إسقاط حاكم مصرف لبنان وتحميله المسؤولية عن كامل المشكلة المالية".

وأعرب عن اعتقاده بأن "حزب الله يسعى إلى تغيير حاكم مصرف لبنان" فيما "أطراف متنوعة أخرى تدفع باتجاه اسقاط الحكومة، وهي القوى والناس والمجتمع المدني الذي أسقط حكومة الحريري".

دعم خارجي

ونفى برّي من القصر الرئاسي أيّ توجّه "للاستغناء" عن حاكم المصرف المركزي.

والجمعة، عنونت صحيفة "الأخبار" المقرّبة من حزب الله "رياض سلامة اللعبة انتهت".

وسبق للحكومة أن اشتبكت في نيسان/أبريل مع حاكم مصرف لبنان، الذي حمّله دياب حينها مسؤولية وصول سعر الصرف إلى أربعة آلاف ليرة.

وردّ سلامة مؤكّداً أنّ "البنك المركزي مَوّل الدولة ولكنّه لم يصرف الأموال".

وكان ينظر الى سلامة طيلة عقود على أنه عرّاب استقرار الليرة في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية (1975-1990). لكنّ قوى سياسية عدّة تعتبره "عراب" سياسة الاستدانة التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة.

ومنذ تشكيلها، تبدو الحكومة عاجزة عن احتواء الأزمة والحدّ من انعكاساتها معيشياً. ويتهمها متظاهرون وناشطون وقوى معارضة بمواصلة اتباع سياسة المحسوبيات في القرارات والتعيينات، بخلاف ما تعهّدت به.

وتواصل الجمعة قطع طرق رئيسة في مناطق عدة، وعملت قوى الأمن على فتحها. ويحتج المتظاهرون أيضا على الارتفاع الجنوني في أسعار المواد الاستهلاكية وخسارة قدرتهم الشرائية.

وتأمل الحكومة الحصول من صندوق النقد على أكثر من 20 مليار دولار كدعم خارجي، بينها 11 مليار أقرّها مؤتمر سيدر في باريس عام 2018 مشترطاً إجراء إصلاحات لم تبصر النور.