بيروت: خططت فاني بانديقيان طويلاً للسفر احتفالاً بتقاعدها العام الحالي إلى أن وقع انفجار مرفأ بيروت فأطاح بأحلامها، وبدلاً من التجول حول العالم، تتمسك اليوم بمنزل بناه والدها بعدما أفقدته الكارثة كثيراً من سحره الأثري.

وبعد مرور شهر ونصف على انفجار الرابع من أغسطس، لا يزال عمال إحدى المنظمات الأرمنية يأتون يومياً إلى المبنى الأثري من ثلاثة طوابق، الذي يعود بناؤه إلى ثلاثينات القرن الماضي، لإصلاح ما خلفه الانفجار إذ تكسرت أبوابه الخشبية القديمة ولم تبق أي من نوافذه على حالها.

بانديقيان واحدة من المواطنين الأرمن كبار السن الذين يسكنون منذ عقود في منازل قديمة في الأحياء القريبة من المرفأ، والتي طالتها أضرار جسيمة جراء الانفجار، ويعتمدون حالياً على منظمات غير حكومية لإعادة تأهيل منازل عاشوا فيها منذ الطفولة.

وتقول فاني "لا أريد أن اترك هذا البيت أبداً، أشعر أن حجارته تتكلم معي".

وتضيف معلمة اللغة الفرنسية المتقاعدة بعد 58 عاماً من العمل "اتصل بي أصدقاء كثر ليقترحوا عليّ الانتقال للسكن لديهم، لكني لم استطع. كيف لي أن أترك منزلي مشرع الأبواب؟".

من منزل فاني، يمكن سماع أصوات المطارق والمثاقب الكهربائية تأتي من كل حدب وصوت من الشوارع الضيقة في حي الجعيتاوي، حيث تنهمك منذ أسابيع منظمات غير حكومية وسكان في أعمال إعادة تأهيل أو ترميم ما أمكن من المنازل المتضررة.

أخذت الجمعية العمومية الخيرية الأرمنية، المعنية بدعم الأرمن في مناطق الانتشار والتي تأسست في العام 1906، على عاتقها ترميم ما أمكنها من منازل، وبينها شقتا فاني وشقيقتها التي تقطن في المبنى ذاته.

وتقول فاني "الأضرار جسيمة جداً، وأكبر من قدرتنا على تحمل كلفتها وحدنا".

بعد الانفجار، دعاها أقرباء لها للانتقال إلى الولايات المتحدة والعيش معهم، إلا أن حلم السفر، الذي طالما راودها للسياحة والنقاهة، لم يعد أولويتها.

وتقول "أشعر فعلاً أني متجذرة في لبنان".


أعود دائماً

ويقطن في لبنان نحو 140 ألف أرمني، وهو التجمع الاكبر لهم في العالم العربي، وجزء كبير منهم يتحدر من ناجين من إبادة الأرمن في العام 1915.

ويسكن جزء كبير منهم في منطقة برج حمود في ضواحي بيروت الشمالية، كما في حيي الجعيتاوي ومار مخايل، من المناطق الأكثر تضرراً جراء الانفجار الذي أوقع أكثر من 190 قتيلاً و6500 جريح.

ترفض بيرجوهي كسباريان رفضاً قاطعاً مغادرة منزلها الصغير الذي انتقلت إليه مع عائلتها عندما كانت طفلة في العاشرة من العمر ويقع في حي الجعيتاوي.

في الثامن من الشهر الماضي، احتفلت بيرجوهي بعيد ميلادها التسعين، أي بعد أربعة أيام فقط من سقوط خزانة المطبخ فوق رأسها جراء الانفجار فأصيبت بجروح في صدرها وقرب شفتيها ما تطلب نقلها إلى المستشفى إنما في اليوم التالي لاكتظاظ المشافي بعد وقوع الكارثة.

ورغم ذلك، تجلس بيرجوهي، السيدة النحيلة، في منزلها اليوم بكل هدوء بعدما أصلحت الجمعية العمومية الخيرية الأرمنية بعض الأضرار فيه.

وتقول السيدة التي شهدت على حروب وأزمات عديدة "أشعر بالحزن تجاه بيروت ... أشفق على الجيل الشاب، لقد خسر الشباب مستقبلهم وحياتهم وحتى منازلهم، وها هم الآن يرحلون".

أما بيرجوهي التي يعيش أولادها الثلاثة في الخارج، فلا ترغب بالرحيل بل تفضل السكن إلى جانب جارتها الأرمنية أيضاً، التي تهتم بها ولا تتركها وحيدة،في منزل ملأته بصور العائلة وبأغطية بيضاء حاكتها بيدها تزين بها الطاولات والأرائك.

وتقول "سافرت كثيراً، وزرت ولدّي في الولايات المتحدة وابنتي في لندن مرات عدة، لكني أفضل دائماً أن أعود إلى هنا".

وتضيف "ستعود الأمور إلى مجراها، كل دولة لديها مشاكلها".


موت في المنزل

ومنذ وقوع الانفجار، تمكنت الجمعية العمومية الخيرية الأرمنية من إصلاح عشرات المنازل، وتتوزع فرق عمالها حالياً على 80 منزلاً آخر، وفق ما تقول المديرة التنفيذية أرين غزاريان لوكالة فرانس برس.

وتأمل الجمعية إصلاح 600 منزل لا تعود فقط للأرمن، كما أنها توزع 1500 وجبة غذائية أسبوعياً على العائلات المنكوبة في برج حمود ومار مخايل.

في منطقة برج حمود، كان سيبو ترزيان يجهد منذ فترة للحفاظ على مستوى معيشة جيد في دار المسنين الذي يديره رغم الأزمة الاقتصادية الحادة التي يشهدها لبنان منذ عام. فكيف به اليوم أن يجد 22 ألف دولار لإصلاح المبنى الذي تضرر جراء الانفجار.

ويقول ترزيان "وعد مواطن أرمني بأن يتعهد بإصلاحه" وقد أرسل أشخاص من قبله للاطلاع على الأضرار، بأمل أن يبدأ العمل قريباً.

ويتلقى دار المسنين، حيث يقطن 119 شخصاً، مساعدات غذائية أيضاً من منظمات غير حكومية.

يعتمد ديكران (58 عاماً)، الذي يعمل في الحدادة، اليوم على المساعدات الآتية من منظمات أيضاً.

وباتت أعمال الترميم على وشك الانتهاء في منزله المطل على إهراءات القمح المدمرة في مرفأ بيروت. في هذا المنزل وُلد ونشأ وفيه أيضاً فقدّ زوجته ليزا جراء الانفجار، وإليه سيعود قريباً مع ابنيه المراهقين.

ويقول بصوت هادئ "مجبرون على العودة، إلى أين نذهب؟.. أعلم أن الموضوع صعب على ولدي، لكن لا أعلم ما الذي باستطاعتي أن أفعله".

يشير بيده إلى زاوية المنزل حيث وجد ليزا مطروحة أرضاً. يشيح بنظره بعيداً، ويتابع "بالمبدأ، يفترض أن يكون المنزل هو المكان الأكثر أمناً لك، لكن الناس هذه المرة ماتت في منازلها".