المفروض لدى أي حكومة في حالة تعرضها لازمات مالية شائكة، ومنها ظهور عجز مالي كبير في تأمين الموارد لتلبية احتياجات الميزانية السنوية للدولة، هو اللجوء الى اتخاذ خطوات اقتصادية منطقية حكيمة لتقليص العجز وتأمين الموار وفق للحاجة الضرورية مع تحديد لائحة بالاهمية القصوى حسب الاولوية للاحتياجات الاساسية العامة، ومن اهم الخطوات الفعالة التي تلجأ اليها الحكومات الرشيدة لتقليل العجز وزيادة نسب تحقيق الميزانية هي ما يلي:
(1): تقليص النفقات الحكومية العامة، وذلك من خلال تقليل التخصيصات المخصصة لادارة الوزارات والمؤسسات التابعة لها، وهي تسمى بالنفقات التشغيلية مع فرض سياسة تقشف عامة على جميع اعمال اجهزة ووزارات الحكومة، وذلك الى حين القضاء على العجز الحاصل في الميزانية.
(2): زيادة الضرائب والرسومات بنسب معينة وخاصة على الشركات واصحاب الاموال والاملاك، وهذه الخطوة تساعد على استحصال موارد وايرادات اكثر على مدار السنة، وبذلك تعمل على زيادة الموارد المالية للميزانية وتقليص العجز فيها.
(3): تقليل حجم اموال العملة الصعبة التي تذهب الى الخارج باسم التجارة واستيراد المواد الاستهلاكية، وتقليص حجم التبادل التجاري للدولة مع الدول التي تتعامل معها، وعلى سبيل المثال فان حجم الاستيراد السنوي الى العراق، وخاصة من تركيا وايران والصين، وصل الى اكثر من ستين مليار دولار سنويا، وبالمعلومة يبلغ حجم التبادل التجاري سنويا لصالح هذه الدول (ايران 12 مليار، تركيا 20 مليار، الصين 30 مليار) حسب بيانات وتصريحات رسمية، وكل هذه الاموال الضخمة تذهب على مدار السنة من خزينة الحكومة وجيوب جميع المواطنين العراقيين صغارا وكبارا الى الخارج دون رجوع دولار واحد بالمقابل.

والمسودة المعلنة والمرسلة الى مجلس النواب لقانون مشروع الميزانية الاتحادية لجمهورية العراق للسنة المالية 2021 تتضمن اجمالي نفقات عامة تشغيلية واستثمارية للرئاسات الثلاث (الرئاسة والحكومة ومجلس النواب) ومجلس القضاء وكافة الوزارات المدنية والعسكرية والهيئات والاجهزة والمحافظات بحدود 150 تريليون دينار، وايرادات اجمالية نفطية وغير نفطية قدرها 92 تريليون دينار، وعجز مالي قدره 58 تريليون دينار.

وكما هو معروف فان العراق بدأ يتعرض الى عجز مالي كبير في ميزانياته السنوية في السنوات الاخيرة، وذلك بسبب انخفاض اسعار النفط وقلة الموارد المالية المحلية غير النفطية، وسنة الفين وعشرون شهدت اضافة الى ذلك ظهور وباء مرض كورونا التي تولدت عنها اثار اقتصادية سلبية، هذا وقد سجلت عجوزات كبيرة بنسبة عالية في الميزانية السنوية للعراق، ففي سنة 2020 سجل العجز بنسبة اكثر من 27.5% من الميزانية (بلغت الميزانية 145 ترليون دينار والعجز 40 ترليون دينار)، وسجل العجز في سنة 2019 بنسبة اكثر من 20% (الميزانية 133 ترليون دينار والعجز 27 ترليون دينار)، وفي سنة 2021 قفز العجز الى اكثر من 38% في مسودة الميزانية (بلغت الميزانية 150 ترليون دينار والعجز 58 ترليون دينار)، والى جانب تسجيل هذه االعجوزات االكبيرة، فان حجم الاحتياطات المالية النقدية من العملة الصعبة والذهب للبنك المركزي العراقي مبهم والارقام المعلنة (60 مليار دولار) لا تنم عن الحقيقة والواقعية وقد تكون مخادعة، والبنك قد يكون بالاصل خاويا، وذلك لتمرير صفقات نهب وفساد كبيرة بعشرات المليارات من الدولارات لجيوب الاحزاب والمافيات السياسية الحاكمة بالعراق، والدليل على ذلك ان الحكومة اعلنت بصورة عاجلة غير متوقعة في الشهر التاسع من 2020 عن وجود عجز كبير بالسيولة وعدم قدرتها على دفع الرواتب وتقربها من الانهيار المالي، لذلك طلبت سن قانون سريع لها في مجلس النواب تسمح لها بالاقتراض لتأمين السيولة المطلوية لدفع الرواتب والمستحقات المالية.

وضمن نفس السياق فان الاعلان المفاجيء لاقبال الحكومة الاتحادية على االانهيار المالي، وتسجيل نسب عالية من العجوزات المالية في ميزانيات 2019 و2020 و2021، يدل من خلال استقراءات بصيرة على استنتاجات خطيرة ضمن سياق العملية السياسية وماهية القدرات المالية الحقيقية المتاحة لدى العراق، ومن باب المنطق والتحليل نستنتج ما يلي:
(1): ان الكتل النيابية في مجلس النواب والعائدة للاحزاب الرئيسية الشيعية والسسنية والكردية الحاكمة في بغداد غير مستعدة تماما على تحمل اي اعباء لسد العجز في الميزانية، وبعين الوقت غير مستعدة لتجهيز الحكومة باي جهد مالي وطني لسد نقص السيولة والاموال في خزينة الحكومة الاتحادية وذلك لدفع الرواتب والمستحقات.
(2): الاعتراف المفاجيء بخلو خزينة وزارة المالية من الاموال والسيولة النقدية، والتقديم بطلب عاجل لقروض فورية من خلال سن قانون طاريء في مجلس النواب، هذه العملية المفاجئة تدفع بكل متابع سياسي وكل مراقب اقتصادي الى الظن والاستنتاج بان البنك المكزي العراقي خال من الاحتياط النقدي، وان ما يعلن من وجود احتياط مالي بحدود (40-60) مليار دولار في البنك المركزي محل شك ولا يحمل مصداقية موثوقة، وبالحقيقة فان هذه المسألة الخطيرة بحاجة الى تدقيق وتحقيق نيابي وسياسي واستقصائي للتحقق من صحة الامر لانها قضية مصيرية تتعلق بحاضر ومستقبل كل العراقيين.
(3): وجود اتفاق مبدئي منذ شهور بين رئيس الحكومة ووزير المالية ووزراء الاحزاب ونواب الكتل النيابية على وضع خطة طارئة لمعالجة النقص الحاصل المفاجيء في الميزانية بعيدا عن فرض اي عبء مالي على الاحزاب والكتل المشاركة في الحكومة، ورمي كل اعباء الخطة على المواطنين والموسومة بـ (رفع قيمة الدولار مقابل تخفيض قيمة الدينار)، وقد حصل ما حصل ووقع الفأس القاتل على رؤوس الاغلبية الفقيرة من العراقيين، ومازالت نية الحكومة تتجه الى تخفيض اكثر في فترات لاحقة.
(4): عدم لجوء الحكومة الاتحادية الى تقليل نسبة العجز في الميزانية السنوية من خلال تقليص النفقات العامة للرئاسات والوزارات والهيئات والاجهزة الرسمية، وزيادة الضرائب على الشركات واصحاب الاموال والاملاك، وزيادة الرسومات بجميع انواعها، هذا الموقف المشبوه وطنيا واخلاقيا يضع علامات استفهام كبيرة على النوايا الحقيقية للسلطة التنفيذية برئاسة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ورئيس الجمهورية برهم صالح.
(5): الاصرار على احتفاظ الاحزاب والكتل بحصتها المالية من الميزانية السنوية رغم العجز فيها، وعدم القبول بخفض نسبة تخصيصات الوزارات والهيئات والاجهزة الموزعة على كل كتلة، والعمل على زيادة حصتها وبقائها، هذه المشاهد الفاسدة هي الافرازات اللاوطنية للعملية السياسية الجارية بالعراق، والكل يعلم ان التخصيصات الحكومية للوزارات وهيئاتها واجهزنها تذهب بصورة مباشرة وغير مباشرة الى جيوب الاحزاب والكتل التي تعود الى تلك الجهات الرسمية، ولا تذهب قاطبة الى خدمة المواطنين.

هذا وليس بحاف فان تنفيذ هذه الخطة للكاظمي وعلاوي والتي تحمل اضرار جسيمة ضد الشعب والمواطنة الكريمة، لا تحمل اي بشارة خير للعراقيين وهي تتعامل مع الفرد العراقي على اساس انه عدو وليس مواطن له حقوق، وهذا العمل الباطل برمي اعباء العجز المالي على المواطنين يعتبر اكبر عملية احتيال في التاريخ المالي للميزانيات السنوية بالعراق، وقد يكون فريد من نوعه على صعيد المنطقة والعالم، وذلك لان الخطة تستهدفت امتصاص وسحب اموال المواطنين بطريقة ماكرة جدا من خلال الاستفادة من الفروقات الحاصلة في سعر صرف الدولار الامريكي مقابل الدينار العراقي، وتخفيض قيمته النقدية، خاصة وان 90% من ايرادات الحكومة من النفط وهي بالدولار الامريكي، حيث بهذا العمل الحكومي اللاوطني تم رمي كل اعباء وااثقال سد نقص العجز الحاصل والمتعمد بالميزانية السنوية على اعباء العراقيين، وهو فعل متسم بالخبث والمكر والعدوان على شعب بعشرات الملايين، وهو مهموم ومقهور منذ عقود طويلة.

ونتيجة لهذا الفعل الشنيع تم رفع سعر الدولار بنسبة اكثر من 17% مقابل الدينار العراقي في اول بداية، وبذلك تمكنت الحكومة من تقليص عجز الميزانية بنسبة 13% في اول خطوة لها، ونتيجة لذلك ارتفعت اسعار جميع االمواد الغذائية والادوية والتجهيزات والسلع الاستهلاكية بنسبة 20-25% ودفع المواطنون ثمنا باهضا مقابل هذا الفعل الرسمي الخبيث، وبذلك يتوقع حصول الحكومة على اول دفعة جاهزة بحدود 12-15 ترليون دينار في غضون اسبوعين، وبسبب نجاح الاجراء وسكوت العراقيين من المواطنين والموظفين والاحزاب والناشطين المدنيين وشرائح ومكونات المجتمع عنها وعدم بروز رد فعل مؤثر عليها، فمن المتوقع ان تلجأ الحكومة الى تكرار نفس الخطوة لمرة ثانية وثالثة في فترات لاحقة خلال السنة الجارية لحين ايصال سعر الدولار الى 1800 دينار، وبذلك ستتمكن من سد العجز كاملا بنسبة 38% وذلك من خلال تأمين 58 ترليون دينار الى خزينته لسد العجز في الميزانية، وكل ذلك من خلال اجراء رسمي متسم بعمل عدواني متصف بالسرقة والنهب والفرهدة لامتصاص الاموال من جيوب كافة العراقيين وسحب مدخراتهم النقدية وخاصة الفقراء والبؤساء والمستضعفين منهم، وذلك من خلال رمي الاعباء والاثقال المالية كلها على اسعار الارزاق والادوية والخدمات والحاجات الحياتية الأساسية الاخرى التي تعتاش عليها المواطنون.

ولغرض الانشاد والتمني بالتحقيق النسبي للعدالة والاستقامة والنزاهة في توزيع الموارد والثروات العامة للشعب على المواطنين ومنها الميزانية السنوية، فاننا نعتقد ان الطريقة المثلى لايصال التخصيصات التشغيلية والاستثمارية والخدمية في الموازنة السنوية الى كل مواطن من الفاو الى زاخو، هي افتراض تقسيم العراق الى ثلاث اقاليم، الاقليم الشيعي والاقليم السني والاقليم الكردي، وتقسيم تخصيصات الميزانية على هذه الاقاليم وفقا لعدد السكان في المحافظات العائدة لكل اقليم، ونموذج اقليم كردستان بالازدهار والعمران يمكن الاقتداء به رغم فساد حكومته واحزابه وطغيان العوائل.الحاكمة فيه.

وخلاصة القول، فان اجمالي الميزانية السنوية للسنة المالية 2021 بالعراق هو عبارة عن نفقات عامة للرئاسات والحقائب الوزارية والهيئات والاجهزة الحكومية، وهذه الجهات الرسمية موزعة على الاحزاب والكتل النيابية وفق نظام المحاصصة المقيتة المتبعة منذ سنة الفين وثلاثة، والاجمالي التشغيلي البالغ 92 تريليون دينار يذهب نصفه مع العجز البالغ 58 ترليون دينار عند سده باموال المواطنين وفقا للخطة الخبيثة للحكومة الاتحادية، فان اغلب التخصيصات وهي بالترليونات ستذهب بعد توزيعها باجراءات ادارية ومالية رسمية الى الوزارات بمسميات تشغيلية واستثمارية، وبعد ذلك تذهب مباشرة الى جيوب الكتل والاحزاب والشخصيات الحاكمة والمتنفذة في العملية السياسية بالعراق، واما اغلبية المواطنين من الفقراء ستظل بلا عمل ولا مورد ولا خدمات ولا مواطنة ولا دولة راعية، وستبقى مفردات الاستقامة والكرامة والمواطنة غائبة لا جدوى منها بالعراق لان الميزانيات مغتصبة من قبل المافيات السياسية الشيعية والسنية والكردية الحاكمة في بغداد منذ الفين وثلاثة، وقد تم سحقتها كل السحق في هذا البلد المجروح دائما، لاسيما بعد ان وضعت الميزانيات تحت خيمة احندات هدامة للعصابات والمافيات المتنفذة، وتمرير هذه الميزانية الهدامة لتدمير العراقيين وتفريغ بنيتهم التختية المالية، بات سلاحا اقتصاديا فتاكا، وهذا السلاح اقوى تدميرا من كل الحروب المدمرة التي عاشها العراق، والله من وراء القصد.

ملاحظة: الارقام مصدرها مسودة قانون ميزانية جمهورية العراق لسنة 2021، وبيانات وتصريحات رسمية.