إيلاف من لندن: توفي برنار لويس مادوف (بارني) الذي يقف وراء أكبر عملية احتيال مالي في التاريخ بلغت قيمتها عشرات مليارات الدولارات عن 82 عاما في سجن في كارولاينا الشمالية.

وكان مادوف الذي يقف وراء أكبر مخطط (بونزي) وأكثرها تدميراً في التاريخ والذي سرق 65 مليار دولار من عشرات الآلاف من الضحايا في جميع أنحاء العالم كان يمضي عقوبة بالسجن 150 عاما. وكان مادوف الذي أعلنت وفاته، يوم الأربعاء، يقضي عقوبة بالسجن التي حكم ضده بها العام 2019 لمدة 150 عامًا في مجمع بوتنر الإصلاحي الفيدرالي ، يضع حداً لحياته المليئة بالفضائح والتي شهدت ارتفاعًا حادًا وسقوطًا مأساويًا.

خبير مالي عصامي

ولعقود من الزمان تمتع مادوف - الرئيس السابق لبورصة ناسداك - باعتباره خبيرًا ماليًا عصاميًا تحدى ثروته الجيدة تقلبات السوق. وكان استقطب مجموعة كبيرة من عملاء الاستثمار من متقاعدي فلوريدا إلى الأثرياء والمشاهير بما في ذلك المخرج ستيفن سبيلبرغ والممثل كيفن بيكون ومالك نيويورك ميتس السابق فريد ويلبون.
و ظل مادوف يتمتع بمكانة متميزة بسبب سمعته في أوساط المال والأعمال الخيرية حتى ديسمبر الماضي، حين أصبح موضع اهتمام جميع الصحف ووكالات الأنباء والقنوات الإخبارية الأميركية باعتباره المسؤول عن أكبر عملية غش استثماري في التاريخ.

حيث قامت الشركة التي أنشأها عام 1960 ـ بجمع أموال طائلة من أفراد ومؤسسات لاستثمارها في البورصة.
ومنذ أوائل التسعينيات قام بجمع أموال دون القدرة على استثمارها، وبدأ يدفع أرباح عملائه من خلال الأموال التي يحصل عليها من عملاء جدد، واعتمدت الشركة على تزوير خطابات مواقف العملاء وحقيقة وضعها المالي لضمان استمرار تدفق هذه الأموال. ويعرف هذا النمط من التلاعب بـ quot;مخطط بونزيquot;.

مليارات الدولارات
وقد قدرت أجهزة التحقيق الفيدرالية إجمالي المبالغ التي دخلت في هذه العمليات الاحتيالية ب 68.4 مليار دولار، هذا ويبلغ الحد الأقصى لإجمالي عقوبات الجرائم التي ارتكبها 150 سنة.

لكن كل ذلك انهار في عام 2008 بعد أن تم الكشف عن أعماله الاستشارية الاستثمارية كمخطط بونزي بمليارات الدولارات قضى على ثروات الناس - الأغنياء والفقراء - ودمر الجمعيات الخيرية والمؤسسات في جميع أنحاء العالم.
ولم يدمر الانهيار الملحمي للاحتيال المالي حياة ضحاياه البالغ عددهم 37 ألفًا فحسب ، بل دمر أيضًا حياة عائلته، بما في ذلك ولديه اللذين انتهى بهما المطاف بتسليم والدهما إلى السلطات.
احتيال هرمي
وكانت طريقة الاحتيال الهرمية لهذه الشخصية البارزة في أوساط المال في نيويورك تقوم على أخذ المال من زبائن جدد ليوزع أرباحا أو يعيد الأموال للمستثمرين القدامى. وقد كشفت عملية الاحتيال هذه في كانون الثاني 2008 خلال الأزمة المالية.

وأفاد مسؤول في المكتب الفدرالي للسجون وكالة فرانس برس في رسالة الكترونية "نؤكد أن برنارد مادوف توفي في 14 نيسان 2021 في مركز بوتنر الطبي الفدرالي في كارولاينا الشمالية". وأوضحت الرسالة أن تحديد سبب الوفاة يتطلب رأي طبيب. وفي فبراير 2020 قال محامي مادوف إن خبير المال السابق يعاني من مرض عضال ويريد أن يغادر السجن ليموت بسلام.

وأوضح المحامي براندون سامبل أن مادوف كان يعاني "من مرض قاتل في الكليتين بين مشاكل صحية أخرى".وكتب سامبل "خلص مكتب السجون في سبتمبر 2019 الى أن أمام مادوف أقل من 18 شهرا للعيش بسبب قصور في عمل الكليتين".
وذكرت صحيفة (واشنطن بوست) يومها أن مادوف يحتاج إلى كرسي نقال وعناية طبية على مدار الساعة. وطلب الافراج عنه ليصلح العلاقة مع أحفاده ويموت في منزله لكن مكتب السجون رفض الطلب.
وضبطت السلطات الأميركية حوالى أربعة مليارات دولار مرتبطة بمادوف وتهدف إلى إعادتها إلى عشرات آلاف المتضررين في العالم.
مخطط بونزي
يرجع مسمى مخطط بونزي إلى تشارلز بونزي الذي قَدِمَ من إيطاليا إلى الولايات المتحدة عام 1903 ونجح خلال ستة أشهر من عام 1920 في جمع 15 مليون دولار من 40 ألف شخص للاستثمار في نشاطه القائم على استغلال الفروق في أسعار طوابع البريد بين الولايات المتحدة وإيطاليا، وهو ما يعد نشاطًا قانونيًّا في حد ذاته. ولكن بونزي جمع أموالاً أكثر بكثير من قدرته على الاستثمار وأُثري بسببها بشكل كبير، واعتمد على تزوير خطابات بمواقف المستثمرين والموقف المالي لشركته التي أطلق عليها اسم شركة تبادل الأوراق المالية كما اعتمد على مهاراته وعلاقاته الشخصية في جذب مزيدٍ من المستثمرين حتى يستطيع سداد أرباح عالية لعملائه من خلال المحافظة على تدفق الأموال إلى الشركة.

و حكم على بونزي بالسجن خمس سنوات ثم أفرج عنه بعد ثلاث سنوات ونصف ليواجه 22 تهمة بالسرقة Larceny في ولاية ماساشوسيتس وأفرج عنه نهائيًّا عام 1934 وتم ترحيله إلى إيطاليا حيث لم يحصل على الجنسية الأميركية.

تجربة مادوف
لم يكن تشارلز بونزي أول من مارس مثل هذه الأنشطة الاحتيالية، حيث عرفت تاريخيًّا في مناطق مختلفة من العالم، إلا أن حجم الأموال التي جمعها بونزي كانت من الضخامة بمعايير وقته مما استحق أن تسمى هذه الممارسات باسمه.
والمميز هنا في تجربة مادوف قدرته على الاستمرار في هذه الأنشطة التي تقوم على الاحتيال والتزوير والتلاعب في تقارير المراقبين لمدة حوالي 17 عامًا.
وذلك على الرغم من أن هذه الممارسات غالبًا ما تنتهي خلال فترة زمنية محدودة إما بهروب الوسيط المالي بأموال المودعين أو أزمة سيولة تؤدي إلى انكشاف أمره أو قيام أجهزة رقابية أو قانونية بكشف حقيقة وضعه المالي وحجم استثماراته.
وربما تكون طول الفترة التي استمر فيها مادوف في جمع أموال المودعين دون وضعها في استثمارات حقيقية أحد أسباب الصدمة التي هزت عديدًا من البنوك والشركات والجمعيات الأهلية داخل وخارج الولايات المتحدة. وقد جاء افتضاح أمر مادوف نتيجة الأزمة المالية التي اشتدت في نوفمبر الماضي وأدت إلى قيام عديد من المودعين بسحب استثماراتهم لدى مادوف، والذي لم يكن لديه السيولة الكافية لمواجهة هذه الطلبات.

الصعود والسقوط
بدأ مادوف نشاطه في عالم الأعمال بمبلغ خمسة آلاف دولار ادخرها من عمله كمنقذ وفي تركيب طفايات الحريق، وافتتح شركة للتجارة في أسهم السنتات، وهي الأسهم التي تقل قيمتها عن خمسة دولارات. وقد أسهمت المنظومة الإلكترونية التي بدأتها شركة مادوف في تطوير المنظومة الإلكترونية التي تقوم عليها بورصة ناسداك، حتى وصلت هذه الشركة في وقت ما للقيام بأكبر قدر من عمليات البيع والشراء ومن ثم توجيه السوق. وقد صار مادوف رئيسًا لبورصة ناسداك في أوائل التسعينيات، كما انضم لعضوية مجالس إدارات عديد من المؤسسات المالية مثل الجمعية الوطنية لتجارة السندات وجمعية صناعة السندات.

و اتخذت الشركة، التي ركزت نشاطها في مجال الوساطة المالية، طابعًا عائليًّا، حيث شارك مادوف في إدارة الشركة أخوه بيتر ، ثم انضم إلى إدارتها العليا ولداه أندروومارك . وارتبطت الشركة التي توسعت أعمالها فيما بعد بأقارب مادوف ونفوذه الشخصي وعلاقاته السياسية التي ضمنت وضع ستار كثيف للتغطية على تجاوزاته القانونية.

تجاوزات
وقال مادوف خلال محاكمته: إن التجاوزات القانونية بدأت في التسعينيات، وإن كانت جهات التحقيق ترى أنها تمتد لما قبل ذلك. كما أكد مادوف أن أخاه وولديه لا علاقة لهم بمخالفات الشركة، وإن كانت التحقيقات تتجه لضم أفراد من عائلة مادوف إلى قائمة الاتهام، خاصة زوجته روث.

و تواترت سلسة الأحداث التي أدت لسقوط مادوف سريعًا منذ نوفمبر الماضي، حين أدت الأزمة الاقتصادية وتراجع أسواق المال إلى زيادة الطلبات برد الأموال المودعة حتى بلغ إجمالي هذه المطالبات في أوائل ديسمبر 20087 مليار دولار.

ومع تأكد مادوف من حتمية افتضاح أمر ممارساته على مدار السنين، قام بإطلاع ولديه على الحقيقة، واصفًا أعماله بأنها مخطط بونزي عملاق وأن شركته كانت مجرد كذبة كبيرة وقام ولدا مادوف بإبلاغ محام قام بدوره بإبلاغ هذه المعلومات للسلطات المختصة.

اعتراف
وفيما يتعلق بالمحاكمة، اعترف مادوف بمسؤوليته عن 11 تهمة وجهتها له النيابة تشمل تزوير مخاطبات وبيانات وغسيل أموال، يبلغ الحد الأقصى لعقوبات هذه الجرائم إلى 150 سنة، ويسعى مادوف الذي كان يبلغ من العمر 70 عامًا خلال اعتقاله إلى تخفيف العقوبة من خلال الاعتراف بالجرائم. وقد أكدت النيابة أن الحكومة لم تعقد أية صفقات مع مادوف.
و مع تصاعد الغضب العام إزاء عجز الجهات الرقابية في الكشف عن التجاوزات التي ارتكبها مادوف، وحجم الخسائر التي سببها للأشخاص والمؤسسات مما أسهم في تعميق الأزمة الاقتصادية وتعميق الشعور بعدم الأمان تجاه قوى السوق، اتجهت جهات التحقيق للسعي للتحفظ على أموال أفراد عائلة مادوف خاصة زوجته روث والتفتيش عن شركائه في المخالفات، كما تم إلقاء القبض على المراجع الخاص بشركات مادوف، وهو دافيد فرايهلينغ.