إيلاف من موسكو: العبارة التي استخدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إيجازه مجريات 2021، تعكس جوهر التحولات الكبرى، التي شهدتها السياسة الروسية خلال عام. «روسيا لا تغضب... روسيا تتأهب». استعار بوتين العبارة من رجل الدولة الروسي ألكسندر غورتشاكوف الذي لعب أدواراً بالغة الأهمية في القرن التاسع عشر، بحسب تقرير لصحيفة «الشرق الأوسط».

من مفارقات التاريخ، أنّ هذه العبارة قيلت بعد هزيمة الإمبراطورية الروسية في حرب القرم (1853)، وتوقيعها في 1856 على اتفاق السلام، الذي ساهم غورتشاكوف بدور رئيسي في تخفيف شروطه على روسيا.

مرة أخرى، وجدت روسيا نفسها أمام تحدٍ كبير يتعلق بمحيطها الحيوي. ومرة أخرى، أعلنت أنها «تتأهب».

لملمة الجراح

لكن مجريات العام 2021 تختلف كثيراً عن أجواء الهزيمة ولملمة الجراح، التي عاشتها البلاد في منتصف القرن التاسع عشر. وموسكو استهلت العام محاطة بضغوط غير مسبوقة، بدأت برزم عقوبات مشددة على خلفية قضية تسميم المعارض أليكسي نافالني، وتواصلت على شكل اتهامات متصاعدة وطرد للدبلوماسيين، وإغلاق قنوات الحوار، وصولاً إلى مواجهة الحشود العسكرية على حدودها، والجولات الاستعراضية للسفن الحربية الغربية في البحر الأسود بالقرب منها. لكنها نجحت في تحويل مسار الأحداث، وتعزيز سياسة «الضغط الأقصى» مع حلول نهاية العام.

وفي عودة سريعة لمجريات العام، فقد بدا منذ بدايته أنّ العلاقة مع أوروبا، وصلت إلى أسوأ مراحل التدهور، ولوحت موسكو بـ«قطعها نهائياً» في فبراير (شباط) قبل أن تقوم بإغلاق قنوات الحوار مع حلف شمالي الأطلسي في وقت لاحق. في حين تركزت أنظار موسكو على ترتيبات الإدارة الأميركية، التي استهلت عهدها للتو، وراقبت التعيينات في الملفات المختلفة في مسعى لتقدير تأثيرها على مستقبل العلاقة مع واشنطن وعلى الملفات المطروحة بين الجانبين، وعلى رأسها الوضع في الفضاء السوفياتي السابق، وسوريا وأفغانستان في وقت لاحق وغيرها من الملفات، وفقًا لصحيفة «الشرق الأوسط».

ومع حلول منتصف العام، كانت المواجهة المتصاعدة مع الغرب اتجهت إلى مزيد من التعقيد، خصوصاً بعد انعقاد قمة الحلف الغربي التي ركزت على مواجهة «السلوك الروسي». وبرزت التجليات الأولى لهذا التطور في البحر الأسود، من خلال تنشيط التحركات العسكرية للطرفين الروسي والغربي في المنطقة وتنفيذ مناورات عسكرية للحلف كانت الأضخم منذ عقود، قابلتها موسكو بتنفيذ مناورات مماثلة، في البحرين الأسود والمتوسط. لكن الأبرز هنا كان الاحتكاك غير المسبوق للقطع البحرية الروسية مع سفن ثقيلة تابعة لبريطانيا أولاً ثم هولندا. وهو الأمر الذي انعكس في رؤية طرحها دبلوماسيون روس حول تحول البحر الأسود إلى «ساحة مواجهة أساسية بين روسيا والغرب».

ولم تقتصر المواجهة المتصاعدة على الملفات، التي باتت مطروحة بشكل دائم على طاولة مباحثات الجانبين، وأبرزها الوضع حول ملف الحريات وحقوق الإنسان على خلفية احتجاز ومحاكمة المعارض الروسي أليكسي نافالني، وملف التدخلات في استحقاقات انتخابية في دول أخرى. إذ بدا أن موضوع ضم القرم إلى روسيا عاد ليظهر مجدداً، من خلال مطالبات الإدارة الأميركية الجديدة بانسحاب روسيا من شبه الجزيرة، وبدا ذلك لافتاً خصوصاً أنّ واشنطن كانت قلّصت من اهتمامها بهذا الموضوع تدريجياً في السنوات الأخيرة. وبدا بعد ذلك مباشرة أنّ ذروة الأزمة تتجه سريعاً لتكون حول أوكرانيا.

فشلت القمة

لم تنجح القمة الروسية - الأميركية الأولى، في جنيف في 16 يونيو (حزيران) في خفض التوتر، على الرغم من حرص الطرفين على إضفاء روح إيجابية على المناقشات.

حمل تبني بيان مشترك حول الاستقرار الاستراتيجي دلالة مهمة، أضيفت إلى الاتفاق على عودة سفيري البلدين لتولي مهامها بعد انقطاع دام شهوراً؛ ما وفّر الفرصة لاستئناف عمل قنوات الحوار في ملفات مختلفة.

في المقابل، راوح عدد من الملفات الخلافية الأساسية بعد فشل الطرفين في تقريب وجهات النظر حيالها، وعلى رأسها الوضع حول أوكرانيا وفي الفضاء السوفياتي عموماً، وملف حقوق الإنسان في روسيا، وموضوع الأمن السيبراني الذي برزت فيه لهجة أميركية حازمة، فضلاً عن تأجيل النظر في ملفات إقليمية ودولية مهمة لم تجد فرصة لتناولها بشكل نهائي في هذه القمة، كما جاء في صحيفة «الشرق الأوسط».

على هذه الخلفية، بدا أن نقطة التحول الروسي بدأت في يوليو (تموز) مع إقرار النسخة الجديدة لاستراتيجية الأمن القومي، التي تضمنت آليات لمواجهة أبرز التهديدات المعاصرة لروسيا، وبينها مبدأ «حماية الشعب الروسي» التي وضعتها كأولوية مطلقة.

استراتيجية جديدة

حدّدت الاستراتيجية الجديدة التهديد الأساسي بأنه الناجم من محاولات «دول غير صديقة استخدام المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في الاتحاد الروسي لتدمير وحدته الداخلية، وإلهام حركات الاحتجاج وجعلها راديكالية، ودعم الفئات المهمشة، وتقسيم المجتمع الروسي. وتفاقم استخدام الأساليب غير المباشرة لإثارة عدم الاستقرار على المدى الطويل داخل الاتحاد الروسي».

ومع تركز أنظار العالم، خلال أغسطس (آب) على تطورات الوضع في أفغانستان بعد تمكن حركة «طالبان» من السيطرة على الوضع في كابل، وتسريع عملية إجلاء القوات الأميركية والأطلسية، برز مسعى من جانب موسكو لتعميق «المأزق الأميركي». وغدا هذا الموضوع محوراً أساسياً لتعليقات الدبلوماسيين الروس حول «عدم جدوى الرهان على الأميركيين»، فضلاً عن تركيز وسائل الإعلام الحكومية والخبراء المقربين من الكرملين على عقد مقارنات بين «الخروج السوفياتي المنظم في عام 1989 من أفغانستان، والفوضى العارمة الحالية»، كما في صحيفة «الشرق الأوسط».

ومع التعليقات الكثيرة التي حملت شماتة واضحة بما وصف بأنه «الهزيمة الكبرى» أو «الفشل الذريع» لواشنطن في أفغانستان، بدا أن موسكو تستعد للإفادة من هذا التطور بتحميل واشنطن كل المسؤولية عن تدهور الموقف «في كل مكان تعرض لغزو أميركي».

الحدث الأفغاني

منح الحدث الأفغاني ورقة ضغط قوية لموسكو، لتعزيز مسار مواجهة الضغوط الغربية. لكن في الوقت ذاته، سعت القيادة الروسية إلى الإفادة من فتح بعض القنوات مع واشنطن؛ ما انعكس في عقد جولات حوار عدة على مستويات مختلفة لمسؤولين من روسيا والولايات المتحدة في جنيف شكلت اختراقاً كبيراً هو الأول من نوعه منذ سنوات.

وأثمر التطور عن اتفاق على تمديد آلية المساعدات الإنسانية الدولية إلى سوريا، وعن رزمة من التفاهمات الأخرى، بينها تخفيف القيود الأميركية على عمل خطوط إمداد الغاز إلى أوروبا (نورد ستريم). لكن بالتوازي مع هذا النشاط، بدا أنّ إلغاء أستراليا صفقة شراء غواصات فرنسية واستبدالها بأخرى أميركية، أثار قلقاً واسعاً لدى موسكو، التي رأت أنّ تداعيات الصفقة الجديدة ستكون بعيدة المدى وتضر بشكل مباشر في نظام منع الانتشار النووي عالمياً؛ ما يعني أنها تفتح على واقع جديد تدخل بموجبه أستراليا في نادي الدول النووية. فضلاً عن أنّ موسكو وجدت نفسها أمام تحدٍ جديد تمثل في تحالف «أوكوس» بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا.

وجاءت التطورات حول بيلاروسيا، مع تفاقم التوتر على الحدود مع بولندا بسبب أزمة اللاجئين، والوضع حول أوكرانيا في إطار استمرار الحشود العسكرية والاتهامات المتزايدة لموسكو بالتحضير لهجوم واسع على شرقي البلاد، ليشكلا الحدثين الأبرز في خريف العام، وبدا أنّ موسكو تستعد لاستحقاق جديد قد يكون الأخطر على مستقبلها بعدما وصلت الضغوط بالمعنى المباشر إلى حدودها القريبة، كما جاء في صحيفة «الشرق الأوسط».

في هذه الأجواء، أطلق بوتين خلال اجتماع موسع في وزارة الخارجية عقد في نوفمبر (تشرين الثاني) سياسة «الضغط الأقصى»، معلناً وضع «خطوط حمر» قال، إن بلاده لن تسمح بتجاوزها.

خفض التوتر

وقال الرئيس الروسي، إنه يجب على الغرب «العمل لخفض مستوى المواجهة مع الاتحاد الروسي وتقديم ضمانات أمنية لبلدنا».

لاحظت أوساط روسية، أنّ بوتين نادراً ما يعطي تعليمات مباشرة للدبلوماسية الروسية أمام عدسات الكاميرات. لكنه هذه المرة خاطب وزير الخارجية أمام الحضور بالقول، إنّ «علينا أن نواصل توجيه التحذيرات القوية للغرب، ويجب أن يفكروا جيداً في رد فعلنا».

في هذا الاجتماع، بدأ الحديث عن «طرح السؤال حول توفير ضمانات أمنية جادة» الذي لم يلبث أن تحول إلى آلية عمل دفعتها بقوة الحشود الروسية العسكرية حول أوكرانيا والإشارات إلى غزو محتمل للبلد الجار، بحسب صحيفة «الشرق الأوسط».

وبين الخطوط الحمر لبوتين ومطالب الضمانات، التي ينتظر أن تشكل العقدة الكبرى في الحوارات الروسية - الأميركية خلال العام المقبل، بدا أنّ سياسة الضغط الأقصى الروسية نجحت خلال 2021 في قلب مسار الأحداث، لمصلحة إطلاق النقاش في محاولة لتحديد قواعد جديدة لعلاقات موسكو مع الغرب.