نحن لسنا أشرارا بطبعنا كما يتصورنا بعض الغربيين, لأن أفرادا منا أو جماعات حاصرتها المظالم والنكبات فلجأت إلي الدين تقحمه في السياسة, وتعلن باسمه الحرب علي من تعتبرهم أعداءها, فتغتالهم, وتخطف طائراتهم, وتفجر أجساد المنتمين إليها في حافلاتهم وقطاراتهم, لا تفرق بين محارب ومسالم, أو بين قاتل محترف مثل أرييل شارون ويهود مغلوبين علي أمرهم من النساء والأطفال والشيوخ.
وليس الغربيون أو اليهود أشرارا بطبيعتهم كما زعم بعضنا, لأن أفرادا منهم أو جماعات لم تكف عن اعلان الحرب علينا طوال القرنين الأخيرين, تحتل أرضنا, وتمزق بلادنا, وتسرق ثرواتنا باسم الحضارة مرة, وباسم المجتمع الدولي مرة, وباسم الديموقراطية وحقوق الإنسان, كما يفعل المستوطنون اليهود في فلسطين, والغزاة الأمريكيون في العراق.
والمقام الذي أجد نفسي فيه الآن لا يسمح لي بزهو أو طرب أو حماسة, بل أنا آسف مكتئب. ولكني مع ذلك مضطر لأن أدفع عن نفسي وعن المصريين والعرب والمسلمين جميعا هذا الشر الذي نتهم به, ويزعم من يتهموننا أنه طبيعة متأصلة فينا, كأننا من طينة غير الطينة التي خلقت منها بقية الأمم.
لا, وإنما نحن وبقية البشر طينة واحدة. وربما سبقنا غيرنا إلي التحضر والتمدن والتقدم, فإن كنا قد تخلفنا بعد ذلك فكما جري علي أمم كثيرة أخري ذلت بعد عز, وتراجعت بعد تقدم, وانحطت بعد علو وارتفاع.
والتاريخ البشري في أي عصر من العصور لا تصنعه أمة وحدها حتي وإن احتلت فيه المكان الأول, وحتي لو كان هذا التاريخ تاريخها هي بالذات. لأن أي أمة لا تستطيع أن تعيش بمعزل عن غيرها من الأمم, كما لا يستطيع الإنسان الفرد أن يعيش بمعزل عن غيره من الناس, وإنما تعيش الأمة في السلم والحرب, وفي القوة والضعف مع الأمم الأخري, تؤثر فيها وتتأثر بها.
ولقد تعلم اليونانيون القدماء من المصريين القدماء, كما تعلموا من الفينيقيين والبابليين, فكان من نتيجة ذلك أن خرج اليونانيون من بلادهم, وبنوا مستوطناتهم في البلاد التي تعلموا منها, وتحولوا من ثم إلي أساتذة ومعلمين للشعوب التي تتلمذوا عليها في الماضي.
والعرب تعلموا من اليهود والمسيحيين, ومن الفرس واليونان قبل أن يوحدوا العالم القديم تحت لواء حضارتهم الجامعة من شواطيءالأطلسي, إلي شواطيء الصين.
والحروب الصليبية التي شنها علينا الأوروبيون في العصور الوسطي انتهت بانتصارنا عليهم, لكنها خوفتنا من أوروبا, ودفعت بنا إلي العزلة. وعلي العكس كان مصير الأوروبيين الذين انهزموا في هذه الحروب, وعادوا إلي بلادهم. فقد خرجوا من عزلتهم التي ضربت عليهم في بداية العصور الوسطي, حين اجتاحت القبائل الشمالية المتبربرة أقاليم أوروبا المتحضرة, ومزقت وحدتها, وحرمتها من التقدم والتطور, فكانت الحروب الصليبية فرصة اتصل فيها الأوروبيون المتخلفون بالعرب المسلمين الذين كانوا في القرن العاشر الميلادي والقرنين التاليين قد بلغوا قمة تحضرهم, ثم تسرب إليهم الوهن, وأحاط بهم الأعداء, وانتقلوا من طور الاندفاع, والفتح, والاكتشاف, والمغامرة إلي طور التردد, والتحصن بالثوابت, والدفاع عن النفس, والانغلاق علي الذات الذي تحول إلي انحطاط لم نخرج منه إلا بالحملة الفرنسية التي استخدم فيها بونابرت من أدوات الحضارة الحديثة ومنجزاتها المادية والعقلية, اقتبسنا منه ونهضنا بعد نوم طويل.
هذا هو تاريخنا. حركة متصلة من التقدم والتقهقر, والاندفاع والأرتداد بين عصور مضيئة وعصور منطفئة لم نصنعها وحدنا, بل صنعها معنا الذين اتصلنا بهم واتصلوا بنا.
وكذلك تاريخ الغربيين الحافل بالبطولات والمخازي.
فالذين بنوا روما كانوا أوروبيين, والذين هدموها كانوا أوروبيين. الذين أقاموا المحارق لأحرار الفكر كانوا أوروبيين, والذين دافعوا عن حرية الفكر واستشهدوا في سبيلها كانوا أوروبيين. زعماء الثورة الفرنسية أوروبيون, وأعداؤها أوروبيون أيضا. فلاسفة النازية والفاشية وزعماؤها كانوا أوروبيين, وفلاسفة الاشتراكية والديموقراطية كانوا أوروبيين كذلك. والأوربيون هم الذين اغتصبوا أمريكا, وأبادوا ملايين الهنود الحمر, واستعبدوا الأفارقة, واحتلوا بلادهم, ودمروا حضارتهم. وهم الذين حاربوا الرق في أنحاء العالم, وحرروا العبيد, وأعلنوا حقوق الإنسان.
نحن لسنا أشرارا بطبيعتنا. والغربيون ليسوا أشرارا بطبيعتهم. والأشرار الحقيقيون هم الذين يميزون بين جنس وجنس, ويفضلون لونا علي لون, ودينا علي دين.
لكن تسليمنا بأننا جميعا لآدم, وآدم من تراب فهو إذن بشر يعرف الخير ويعرف الشر, ويجوز عليه الصواب والخطأ ـ تسليمنا بأن طبيعة البشر واحدة, وتاريخهم متداخل متفاعل متصل, وحضارتهم مشتركة لا يعني التسوية بين المخطيء والمصيب, أو بين القتيل والقاتل.
التسوية هنا ظلم, لأن الفعل الإنساني لا يصدر عن الطبيعة وحدها, وإنما يصدر عن العقل أيضا, فهو إدراك واختيار. وإذن فالإنسان مسئول عن أفعاله.
وأشد ظلما من التسوية بين المعتدي والمعتدي عليه, أو بين من يبدأ بالعدوان ومن يرد علي الشر بشر مثله أن نتستر علي المجرم ونمسك بتلابيب الضحية أو نمسكها له كما يفعل بعض الغربيين الذين يرون عنفنا, وتعصبنا, وعداءنا للديموقراطية وحقوق الإنسان, ولا يرون الذين بدأوا بالعنف والتعصب, وتنكروا للديمقراطية وحقوق الإنسان من الأوروبيين والصهيونيين والأمريكيين.
نعم, نحن لا ننكر أن في بلادنا جماعات متخلفة تفرض علينا تشددها وتعصبها وانغلاقها, وفيها منظمات ارهابية تزلزل أمننا, وتصادر حرياتنا, وتهدم كل ما بنيناه في نهضتنا الحديثة, وتعزلنا عن العالم, وتزعم لنفسها كل فضيلة, وترمي الآخرين بكل منقصة.
والمؤسف, والمخيف أن تنفرد هذه الجماعات بالساحة العامة التي غاب عنها صوت العقل والضمير الحي, وعربد صوت الجهل والخرافة والتعصب المقيت حتي أصبحنا نجد صداه في دوائر العمل, وأماكن العبادة, وأجهزة الاعلام, بل نحن نفاجأ به حتي فيما يتعلمه أبناؤنا في مدارس الحكومة, كأن نجد مثلا في كتاب التربية الإسلامية المقرر علي تلاميذ الثانوية العامة كلاما عن اليهود يصفهم بالغدر, والخيانة, والعنصرية, وكراهية الأجناس الأخري, وعدم الولاء للبلاد التي يعيشون فيها. وهي صفات يطلقها الكتاب علي اليهود جميعا لا يستثني منهم أحدا, ويؤكد أنهم يولدون بها ويموتون, ويرثها الأخلاف منهم عن الأسلاف, ولهذا تظل صفاتهم باقية فيهم لا تزول ولا تحول لأن يهود الأمس ـ كما يقول الكتاب المقرر ـ هم يهود اليوم والغد طينة واحدة!
هذا الكلام هو الكلام العنصري الكريه الذي يجب علينا جميعا أن نستنكره, ونتصدي له, ونطارده في كل مكان, ونستأصله من فكرنا وسلوكنا لأنه وهم خرافي لا يستند إلي علم أو واقع, ولأنه يسيء إلينا قبل أن يسيء لليهود, ولأنه يخدعنا ويضللنا إذ يوهمنا بأننا أفضل من سوانا, فنلوذ بهذا الكذب المريح, ونجعله بديلا عن أن نجاهد أنفسنا, ونغير واقعنا, ونتخلص من عيوبنا, ونستنهض قوانا, ونسترد حقوقنا, ونبلغ أمانينا.
لكن هذه النزعات المقيتة التي انتشرت في أوساط كثيرة عندنا ليست مقصورة علينا أو محصورة فينا. ولو تأملنا الصورة التي ترسمها الأفلام وأجهزة الاعلام الأمريكية لنا ولغيرنا من شعوب العالم الثالث لأدركنا سر هذه الكراهية التي يصبها الأمريكان أو معظمهم علينا وعلي غيرنا. القنابل الذرية التي جربها الأمريكان في أجساد المدنيين اليابانيين كانت قنابل عنصرية. وحرب فيتنام كانت حربا عنصرية. وحرب العراق حرب عنصرية وصليبية أيضا باعتراف المتهم الأول!
ولو تتبعنا ما يقوله عنا ويفعله بنا النازيون الجدد في أوروبا, والأصوليون اليهود في إسرائيل لعرفنا أن العنصرية في هذه البلاد ليست أقل خطرا من العنصرية في بلادنا, وأن تعصب اليمين الصهيوني, وامتثاله لسلطان الخرافة, واستهانته بالعرب وبثقافتهم وتراثهم وحقوقهم الوطنية والشخصية, ودمائهم لا يختلف في شيء عن تعصب الطالبان والقاعدة, بل هو أفظع وأشنع لأن الطالبان لم يحتلوا بلاد الآخرين ولم يحكموا شعوبها بالنار والحديد كما يفعل الإسرائيليون الآن.
ونحن نقرأ فيما يكتبه الروائيون الإسرائيليون أن العرب جبناء مرتشون. وأنهم لم ينتجوا شيئا يستحق المشاهدة خلال الأعوام الألف الأخيرة إلا كباريهات, وكارتات بوستال حقيرة, من طنجة إلي طهران, وأن الضباط البريطانيين العاملين في فلسطين أيام الانتداب كانوا يفشلون في استدراج أي فتاة يهودية لمخادعهم. ولما كان من المتعذر عليهم أن يعثروا علي فتيات أنجليزيات, فقد اضطروا لمعاشرة نساء العرب!
أليست هذه عنصرية؟ أليس هذا تعصبا؟ أليس هذا عنفا دمويا؟ أليس الجدار العازل تمييزا عرقيا, وعدوانا دائما علي أراضي الفلسطينيين وحقهم في الحياة والكرامة والحرية؟! فإذا كانت عنصرية الآخرين لا تبرر لنا العنصرية, فمن حقنا علي الأقل أن ندفع عن أنفسنا تهمة البدء بها.
نحن لم نبدأ اليهود بالعدوان لأنهم لم يكونوا هنا من قبل, وإنما هم الذين بدأونا به وفرضوه علينا, حين أغتصبوا فلسطين اغتصابا وطردوا أهلها منها. نعم, لسنا نحن الذين خلقنا الارهابي مناحم بيجين والارهابي آرييل شارون, الصهيونية هي التي خلقت أسامة بن لادن, وأيمن الظواهري, وعمر عبد الرحمن!














التعليقات