مرت قبل 13 يوما الذكرى الأولى لتأسيس مجلس الحكم العراقي في الثالث عشر من يوليو (تموز) 2003. ولا بد من وقفة سريعة لتقييم هذه المؤسسة التي كثُر الكلام عنها في كل انحاء العالم، وأثارت استياء البعض، واستغراب البعض، وإعجاب البعض الآخر.
يمكن القول ان مجلس الحكم اكثر مؤسسة سياسية تعرضت للظلم واساءة الفهم داخليا وخارجيا في التاريخ الحديث. وقد أتمكن أنا، الذي عشت وسط هذه الزوبعة السياسية لمدة عام تقريبا، ان أرى ما لا يراه غيري في ما يخص عمل هذه المؤسسة الوطنية العراقية وأداءها، واسباب المعارضة الشديدة التي لاقتها في الداخل والخارج، رغم انها كانت، ودون أدنى شك، المؤسسة السياسية الحاكمة الاوسع تمثيلا في العالم العربي، بل والعالم الثالث كله.
وقد يقول قائل انني منحاز لمجلس الحكم لأنني كنت الناطق باسمه، لكنني ازعم أنني تعلمت من عملي الاعلامي في العالم الحر، الموضوعية في التقييم، خصوصا ان المجلس قد انتهى وليس هناك ما يدعو للمجاملة، ولكن يبقى الانسان في اكثر الاحيان منحازا لنفسه وفكره وأدائه وأصدقائه، ولا استطيع ان أبرئ نفسي من هذه التهمة.
وكما هو معلوم فقد أُنشئ مجلس الحكم بعد مداولات واسعة النطاق بين القوى السياسية العراقية الرئيسية، بدأت في الشهر الخامس من عام 2003، وضم 25 عضوا مثلوا التيارات السياسية والاجتماعية والدينية الرئيسية في البلاد بعد أن غيرت أميركا سياستها من إدارة العراق عبر حاكم عسكري، هو الجنرال جي غارنر، لمدة ثلاثة أشهر، ثم تسليم السلطة إلى حكومة عراقية مؤقتة، الى تعيين حاكم مدني، هو السفير بول بريمر، ليحكم البلاد بشكل مطلق ولفترة غير محدودة. لقد غيرت واشنطن سياستها تجاه العراق من دون استشارة القوى السياسية العراقية، التي كانت قد اتفقت في مؤتمر لندن للمعارضة العراقية في 15 كانون الأول عام 2002، على قيادة بديلة للعراق تمثلت بـ"لجنة التنسيق والمتابعة". وكان من المفترض ان تتولى اللجنة المذكورة، المؤلفة من 65 شخصا من كبار القادة السياسيين والدينيين العراقيين في الخارج، ادارة البلاد بعد سقوط نظام صدام حسين، الى حين اجراء انتخابات عامة. ورغم الرعاية والدعم الأميركيين لمؤتمر لندن، الا ان واشنطن لم تكن مقتنعة على ما يبدو بقدرة عراقيي المنفى على إدارة شوؤن العراق بعد سقوط نظام صدام، واقتصر الوضوح الأميركي على ضرورة الاطاحة بنظام صدام وتخليص المنطقة والعالم من شروره، والى ذلك اعلنت احتلالها للعراق رسميا، وُشرِّع لذلك الاحتلال بقرار مجلس الأمن الدولي المرقم 1483 لعام 2003، فوضع الاحتلال السياسيين العراقيين في حرج شديد، فمن جهة، لا يمكنهم ان يؤيدوا احتلال بلدهم من قبل قوة عسكرية أجنبية حتى وان كانت صديقة، لكنهم من جهة اخرى، يعرفون جيدا انهم لا يستطيعون الاستغناء عن الأميركيين مرحليا على الاقل، بسبب انهيار المؤسسات الحكومية العراقية واختفائها كليا من الساحة، وقيام سلطة الاحتلال بحل الجيش والمؤسسات الأمنية رسميا... الخ.
كانت القوى السياسية العراقية تتشاور في ما بينها حول مستقبل العراق وكانت هناك دعوات. الا ان التغيير الذي طرأ على السياسية الأميركية غير الواضحة أصلا، واعلان الاحتلال رسميا وشرعنته بقرار دولي، جعل من المُلِح ان تجتمع القوى السياسية لتشكيل هيئة وطنية عراقية تمثل الشعب العراقي مقابل سلطة الاحتلال الأميركي. ولكن ما جدوى مثل هذه الهيئة الوطنية العراقية ان لم تعترف بها سلطة الاحتلال؟ لذلك حرص السياسيون العراقيون على أن يحصلوا أولا على اعتراف أميركي بهم كممثلين للشعب العراقي، وكانت المفاوضات لانشاء هذه الهيئة الوطنية متعددة الأطراف، اذ كانت تجري بين القوى السياسية العراقية الرئيسية نفسها من جهة، وبينها وبين سلطة الائتلاف بقيادة بريمر من جهة ثانية، وبين بريمر وشخصيات عراقية من الداخل كانت في مجملها غير سياسية، من جهة ثالثة.
طرح السفير بريمر فكرة "المجلس الاستشاري"، وهي ان تشكل القوى السياسية والاجتماعية العراقية مجلسا "تستشيره" السلطة الأميركية في العراق عند اتخاذها للقرارات، لكن هذا المقترح رُفض جملة وتفصيلا من قبل القوى السياسية العراقية ولم يُناقش أصلا، اذ لم يكن هناك من هو مستعد لأن يقدم المشورة لسلطة تحمل صفة الاحتلال، على الرغم من التفهم العراقي بشكل عام لأسباب الوجود العسكري الأميركي في العراق. بعد ذلك قدم بريمر تنازلا جديدا للقوى السياسية العراقية، وهو إنشاء مجلس سياسي بصلاحيات محدودة بدلا من المجلس الاستشاري، لكن ذلك المقترح رُفض هو الآخر، لذ أصرت القوى السياسية العراقية على لعب دور مهم في لدارة البلاد في المرحلة الانتقالية وليس دورا ثانويا. بعدها طُرحت فكرة إنشاء مجلس له صلاحيات واسعة تتقدم على صلاحيات سلطة الاحتلال الممنوحة لها بموجب قرار مجلس الأمن 1483، ويكون ممثلا لكل قوى الشعب العراقي السياسية والدينية والاجتماعية والقومية، بالإضافة إلى كونه الجهة العراقية التي يجب أن يتفاوض معها الأميركيون حول تسليم السلطة إلى العراقيين حينما ينتهي الاحتلال. قُدم المقترح إلى السفير بريمر فوافق عليه بعد مداولات ومشاورات مع الأحزاب العراقية الاخرى وتعديلات ضمت إضافة أسماء شخصيات اجتماعية عراقية من الداخل لموازنة الأحزاب السياسية المقبلة من المنفى. وقد أُتفق على تسمية المجلس الجديد بـ"مجلس الحكم بصلاحياته المعلومة".
ومن هنا فان تأسيس مجلس الحكم كان مطلبا وطنيا عراقيا شاركت فيه الأمم المتحدة واعترفت به سلطة الاحتلال، ولم تعينْه، كما اشيع في أروقة كثيرة في العالم منها قنوات رسمية أميركية وغربية. وقد حصل المجلس لاحقا على اعتراف دولي تمثل بالقرار 1511 الذي أناط سيادة العراق بمجلس الحكم ودعا دول العالم الى التعاون معه ومع الحكومة التي شكلها.
اتسمت العلاقة بين مجلس الحكم وسلطة الائتلاف بالحذر والشكوك المتبادلة، واحيانا بالتوتر، الا ان الشعور المشترك لدى الأميركيين والعراقيين بأنهم في مركب واحد انْ غرق فانه سيودي بحياة الطرفين، وان عليهم ان يتحالفوا كي ينتصروا على أعدائهم المشتركين، قد ساعد على ضبط هذه العلاقة وإبقائها متماسكة. لذلك فقد حافظ الطرف العراقي على "علاقة عمل" مع الأميركيين، بينما تعامل الأميركيون على مضض مع مجموعة من القادة السياسيين العراقيين المتمرسين الذين كانوا يتطلعون إلى الفترة التي ستلي مغادرة الأميركيين لبلادهم. لم تكن علاقة الأميركيين بكل القوى السياسية العراقية على مستوى واحد، فبينما كانت هناك قوى لها علاقات طويلة ووطيدة مع الأميركيين، كالمؤتمر الوطني، والوفاق الوطني، والحزبين الكرديين الرئيسيين، كانت هناك قوى لها تاريخ طويل في السير في الاتجاه المعاكس للسياسة الأميركية كحزب الدعوة الاسلامية والحزب الشيوعي العراقي والقوى الإسلامية بشكل عام سنية وشيعية. الا ان عمل المجلس لم يتأثر بهذا التفاوت في العلاقات مع الولايات المتحدة، بل عمل كوحدة واحدة دائما، ولم أر انحيازا الى السياسة الأميركية بين أعضاء المجلس، بل كانوا دائما ينطلقون في مواقفهم من مصلحة العراق.
كان مجلس الحكم طوال فترة وجوده في السلطة، التي بلغت عشرة أشهر وثمانية عشر يوما بالتحديد، مستقلا بقراراته ولم يتخل عن رأيه الا في مناسبات قليلة جدا اتسم بها الموقفان الأميركي والعراقي بالحرج، إذ كان سيؤدي الإصرار العراقي الى نتائج عكسية. وفي الوقت نفسه، حاول السفير بريمر ان يستقل باتخاذ القرارات ايضا، خصوصا في الآونة الاخيرة، وقد تجاهل مجلس الحكم في بعض الاحيان ولم يرجع إليه في عدد من القضايا، بل واضعف موقفه عدة مرات، خصوصا في ما يتعلق باعادة المفصولين السياسيين الذين اتخذ المجلس قرارا باعادتهم الى وظائفهم في مطلع فترة عمله، لكن بريمر عطل هذا القرار لعدم توفر الموارد المالية وجعل المجلس يبدو ضعيفا امام شريحة كبيرة من المجتمع العراقي كان يمكن ان تكون اساسا لقاعدة شعبية يرتكز عليها. وقد كادت العلاقة بين السفير والمجلس تصل الى مرحلة مواجهة أثناء أحداث الفلوجة والنجف وكربلاء ومناطق أخرى، إذ علّق البعض عضويته في المجلس بينما هدد آخرون بالاستقالة، فلم يعد ممكنا أن يصمت الأعضاء على محاصرة القوات الأميركية لهذه المدن ولا على وقوع ضحايا من المدنيين اثناء القتال بين المجموعات المسلحة والقوات الأميركية، رغم علمهم (الأعضاء) بأن القوات الأميركية كانت مضطرة في كثير من الأحيان للرد على نيران معادية ولملاحقة عناصر ارهابية حقيقية بعضها أجنبية كانت تسعى لإضعاف العراقيين قبل الأميركيين وتدمير كل المنجزات التي تحققت في مجال الحريات العامة وإقامة النظام الديمقراطي التعددي.
قد يؤاخذ مجلس الحكم على اتباعه لما سمي بـالمحاصصة الطائفية والقومية، الا أنه، وفي غياب الانتخابات، كانت هناك ضرورة لتطمين الاطراف العراقية المختلفة التي عانت من الاضطهاد والتمييز العنصري والطائفي على مدى عشرات السنين. وقد يؤاخذ ايضا على اختياره لأحد عشر رئيسا خلال فترة حكمه التي لم تبلغ أحد عشر شهرا، وهذا بالتأكيد أضعف الهيكل الإداري للمجلس كثيرا وجعل من الصعب تشخيص عيوبه بسبب تغيير الرئيس كل شهر. الا ان المجلس كان بمثابة برلمان يضم أحزابا وتيارات مختلفة وليس بمقدورها أن تتفق بسهولة على زعيم واحد قد يحصل على مكاسب سياسية على حساب الأحزاب الاخرى بسبب الرئاسة. بل قد يكون تولي الدكتور ابراهيم الجعفري رئاسة المجلس أول مرة قد أكسبه أفضلية سياسية على الآخرين، وجعله يتقدم في استطلاعات الرأي العام على منافسيه لفترة من الزمن. كان يجب أن يضم المجلس أعضاء آخرين وقوى سياسية اخرى حتى يكون اكثر تمثيلا. وكان يجب ان يكون هناك وضوح بين أعضاء المجلس حول صلاحياتهم، واصرار على ممارسة هذه الصلاحيات. كان يجب ان ينأى بعض الأعضاء بأنفسهم عن كل ممارسة يمكن ان يساء فهمها، خصوصا الاستعانة بالأقارب والأصدقاء، مهما كانت كفاءة هؤلاء ولياقتهم للمناصب التي احتلوها، وان يسعوا جاهدين لدرء كل الاتهامات بالتطبيق العملي. لا بد ان هناك مؤاخذات أخرى على أداء المجلس واخطاء ارتكبت ربما بسبب الظروف الصعبة التي مر بها العراق وحداثة العهد بالسلطة وعدم تماسك هيكل المجلس الذي ساوى بين سياسيين متمرسين لهم باع طويل في عالم السياسة وآخرين مبتدئين، بين زعماء أحزاب وقادة تيارات وطنية عريقة وأفراد أفتُرِضَ أنهم يمثلون الشرائح التي ينتمون اليها، لكنهم ربما لم يمثلوا الا انفسهم. لكن بعض الاخطاء تدخل ضمن قاعدة من لا يعمل لا يخطئ، فطبيعة العمل تحتم الوقوع في الخطأ، بينما لم يسمح الوقت او الظروف بتصحيح بعض الأخطاء او توضيح المواقف منها. لقد أشار آخر قرار اتخذه المجلس، وهو قرار حل نفسه، والذي ورد وعد به في الخامس عشر من تشرين الثاني 2003، أي بعد اربعة اشهر من تشكيل المجلس، أشار بوضوح الى ان أعضاء مجلس الحكم لم يكونوا يريدون الاستمرار في مناصبهم بل كانوا يسعون بقوة الى اختصار فترة حكمهم والتسريع بحكم الشعب لنفسه عبر انتخابات حرة ونزيهة، وها هم اليوم يكمِّلون هذه الجهود من خلال عملهم في الحكومة المؤقتة والهيئة التحضيرية العليا للمؤتمر الوطني العام الذي سينتخِب مجلسا مؤقتا يكمِّل الهيكل السياسي العراقي الحالي ويقوُّم عمل الحكومة، وكل ذلك يضاف الى انجازات المجلس المتميزة خلال فترة قياسية لم تتجاوز العام.
* الناطق الرسمي لمجلس الحكم العراقي السابق

الشرق الأوسط اللندنية