من يقرأ تعليقات مسؤولي الدولة العبرية على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المطالب "إسرائيل" بالامتثال للحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية حول لا شرعية بناء جدار الفصل العنصري يخال أنها تعليقات قادة دولة كونية عظمى تَهَاب كبرياتُ دول العالم جانِبَها. يكفي أن تقرأ التعليمات تلك مجرّدة من أسماء المنسوبة إليهم حتى يأخذك الظن بأنها صادرة عن أركان الإدارة الأمريكية، وربما عن مَنْ يُسمون بالصقور فيها!

تَحَدى رعنان غيسين، الناطق الرسمي باسم رئيس وزراء دولة الجدار العنصري، قرار البشرية في الأمم المتحدة قائلاً إن دولته "لن توقف البناء" أو تتنازل عن "حقها" في "الدفاع الذاتي"؛ وكان غيره قد صرّح بأن حكومة شارون لن تعترف إلا بقرار المحكمة العليا "الإسرائيلية"، أما قرار المحكمة الدولية فلا يعنيها. ولمّا كان ممكناً إسقاط الاعتراف "الإسرائيلي" بالقانون الدولي، ممثلاً في أعلى محافله (محكمة لاهاي)، فَلِمَ لا يكون في وسع لسان شارون (رعنان غيسين) أن يتطاول على البشرية التي أدانت دولته وعلى الأمم المتحدة التي تجسّد "ديكتاتورية الغالبية"؟! من يقدم قانونه على القانون الدولي، من ينتظر منه غير أن يرجّح "حق" الأقلية الميكروسكوبية على غالبية دول العالم وملايير البشر التي تمثلها تلك الدول؟!

ولم يكن سفير شارون في الأمم المتحدة أقل وقاحة من الناطق باسم رئيسه وهو يعلق على قرار الإدانة في الأمم المتحدة: شَنعَ على القرار تشنيعاً ولم يقرأ فيه سوى انحياز المجتمع الدولي للفلسطينيين، كما لو أنه ليس على هذا المجتمع أن ينحاز إلى الحق! وحَمِدَ إلَهَهُ على أن "مصير "إسرائيل" والشعب اليهودي لا يتقرر في هذا المجلس (الجمعية العمومية)" وإنما في مجلس الأمن الذي يحكمه الفيتو الأمريكي ذاكراً جميل الأمم المتحدة التي تبرعت على كيانه بالاعتراف في العام 1947. ولقد مَلَكَ دان غيلرمان سفير شارون في الأمم المتحدة اللسان السليط كي يتطاول على مقام 25 دولة أوروبية ويصف دعمها للقرار بأنه كان "دعماً معيباً"، دون أن ينسى اتهام فرنسا بأنها "تصرفت بطريقة معيبة جداً"، لأنها "عملت من أجل أصدقائها الفلسطينيين وأقنعت الدول الأوروبية الأخرى باعتماد القرار".
وأطال لسانه أكثر حين وصف دعم أوروبا للقرار بأنه "دعمٌ مُشين"!
تبلغ الوقاحة منتهاها حين يأتي السفير إياه بالحديث عن موقف هولندا، الرئيس الدوري الحالي للاتحاد الأوروبي. ينتقي أشد العبارات بذاءة في قاموس العلاقات الدولية، فيزعم أن هولندا مالت الى "التخلي عن أخلاقها"(!)، متحسراً على رئاسة ايرلندا التي كان "الإسرائيليون" في ما يقول يتوقون إلى التخلص منها.

لم نسمع ردوداً من الأمم المتحدة ومن الاتحاد الأوروبي على هذا الكلام الساقط الذي لم تَعْتَدْهُ الأعراف الدولية. قطعاً لن يأتي رد من كوفي أنان خشية أن يوبخوه في الخارجية الأمريكية، والأرجح أن دول أوروبا ستترفع عن أن تَنْحَط للدخول في مهاترات كلامية مع خطاب موتور. لكنها تستطيع، إن شاءت، أن تقدّم ردّاً سياسياً أعلى فائدة ومصداقية بممارسة ضغط مادّي حقيقي على الدولة العبرية لحَمْلِها على احترام قرار المحكمة الدولية وإرادة المجتمع الدولي، وتفكيك جدار العزل العنصري. أما إن أبتْ، فقليل جداً من العقوبات الاقتصادية كفيل بتأديب هذه الدولة المتمردة على القانون الدولي. يتوقف ذلك على رغبة أوروبا في أن تنهض بدور فعليّ وفاعل في قضية "الشرق الأوسط"، وأن تكسر طوق التردد في اتخاذ المبادرة لتجنب الصدام مع الإدارة الأمريكية.

من يقرأ تهديداً ضمنياً، في كلمة دان غيلرمان، لدول الاتحاد الأوروبي باستثنائها من "جهود" التسوية في "الشرق الأوسط"، سيظهر له السبب ويَبْطُل العجب ويفهم لماذا تتطاول ألسنة "إسرائيل" الصغيرة على مقام الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي: فهي تتحدث نيابة عن أمريكا. لا شك في أن الوقاحة والاستعلاء لا يُعْوِزَان دولةً تمثل "شعب الله المختار"، ولا يمثل الأوروبيون ناهيك عن الأفارقة السود والآسيويين الصفر وأمثالهم في أمريكا اللاتينية أيّ مدعاةٍ للشعور بالنقص لديها منهم وهي من "سلالة السماء"! لكن هذا الخطاب العنصري الثاوي في جوف خطابها السياسي إنما يحتاج دائماً إلى تظهير من خارج، وهو ما تقدمه لها السياسة الأمريكية. تقول "إسرائيل" صلفها وغطرستها في وجه العالم كله لأنها مطمئنة لمن يَحْرُسُ بقاءَها ويحمي تَطاوُلَها من العقاب الدولي. وما بقيت أمريكا حارساً شخصياً لها، لن يلحقها عقابٌ جدّي ما خلا عقاب الفلسطينيين لها.

*الخليج الإماراتية