وضاح شرارة: لم تفصل ثلاثة ايام بين رأي اللجنة الرباعية للشرق الأوسط في سياسة ياسر عرفات و"حكومته" بإزاء "خريطة الطريق" العتيدة (الى دولتين فلسطينية وإسرائيلية) وبين رأي محكمة العدل الدولية الاستشاري في بناء اسرائيل جدار فصل في اراضي الضفة الغربية المحتلة. ففي السابع من تموز (يوليو) طعن بيان اللجنة من غير مواربة في إحجام السلطة الفلسطينية عن "اتخاذ... خطوات ملموسة وميدانية" تمهد لإحياء "خريطة الطريق", وفي "سلبيتها" وامتناعها من "اغتنام فرصة... مبادرة اسرائيل الى الانسحاب من غزة".
وما لم يفصح البيان عن تفاصيله افصح عنه الديبلوماسيون. فاللجنة كررت بنوداً سبق لمحمود عباس, في ضوء التوصيات الدولية, الأميركية وربما الإسرائيلية والفلسطينـيـة ابتداء, ان شرط بها دوام اضطلاعه برئاسة حكومة حقيقية او فعلية. واستأنفت "الوساطة" المصرية, في طورها الأخير, تبني البنود نفسها. وهي تختصر في فك العلاقات الملتبسة بين رئاسة ياسر عرفات وسياسته المراوغة, وبين اجهزة السلطة الفلسطينية وهيئاتها, من وجه, وبين السياسة نفسها وبين المنظمات السياسية والعسكرية التي تنشط في غزة والضفة الغربية المحتلتين, من وجه آخر. وطلب فك العلاقات على هذا النحو يضمر (او يعلن) تحميل بنية السلطة, وضعف الفصل بينها وبين المنظمات والجماعات الأهلية, الشطر الأعظم من المسؤولية عن الأعمال الإرهابية, وعن الأعمال العسكرية التي تؤدي الى تعثر المفاوضات او الاتصالات او التسويات الجارية او المزمعة.
وجبهت رأيَ اللجنة الرباعية ردود وتحفظات جددت, على هذا القدر او ذاك, نهج التنصل المعـروف والمألوف من تبعات سياسة واضحة. وتكـاد تكون الردود والتحفظات هذه هي عينها التي جبهت "الوساطة" المصرية قبل اسابيع قليلة. فأنكرت مسؤولية السلطة الفلسطينية, والفلسطينيين عموماً, عن جمود "خريطة الطريق" وإجراءاتها الأولى. وربطت المبادرة الفلسطينية الى لجم الإرهـاب ومنظماته بـ"معاملة (اسرائيلية) بالمثل". وتذرعت بنتائج العمليات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة, وأجهزة الأمن الفلسطينيـة والرأي العام الفلسطيني, الى القول باستحالة قيام السلطة بمهماتها قبل استعادة اجهزة الأمن قوة ردعها, والرأي العام مساندته اجراءات السلطة. ودانت حمل الجلاء الإسرائيلي عن غزة على معنى غير معنى الهزيمة المنكرة والحاسمة. وهو كسب فلسطيني خالص والهزيمةينبغي ان تلهم السلطة والمنظمات والشعب جميعاً ومعاً (وهي الحال التي ندد بها عباس وتابعه على التنديد بها الرئيس المصري واللجنة الرباعية اليوم), المضي على الطريق نفسها, وتنكب "خريطة الطريق" والانسحاب من غزة. وإلا انفجرت حرب اهلية فلسطينية, وجرّت اهوالاً تفوق اهوال لبنان والعراق والسودان والجزائر مجتمعة. وهذا اشبه بتهويل وزير خارجية السودان بـ"حرب عراق" جديدة إذا نزع سلاح الجنجويد بدارفور.
وعابت ردود وتحفظات اخرى على اللجنة الرباعية فجاجتها غير الديبلوماسية, وجهلها بمعايير السياسة في بلدان المنطقة و"دولها". فلم تفهم اللجنة, على قول مصادر قريبة من بعض وزارات خارجية مشرقية, ان ياسر عرفات لا يسعه اختصار اجهزته الأمنية الى ثلاثة (محل العشرة او الإثني عشر جهازاً, فلا احد يعلم عددها على وجه الضبط), والتخلي عن صلاحياته المالية على سبيل المثال, الى رئيس وزراء, وقبولَ رجل ليس من خلصائه ومواليه وزير داخلية - من غير "ثمن" او مقايضة, على جاري العادة والعرف الفلسطينيين والعربيين. وهو لا يسعه ان يرضى تولي المصريين تأهيل قوات الأمن الداخلي وتولي المراقبة على الحدود الفلسطينية المصريـة, ومعابرها وطرقها وأنفاقها, وعلى المطار والمرفأ. فهذا خروج, على قول المصادر نفسها, على "الثوابت الوطنية" الفلسطينية, وعلى "الثوابت القومية" المصرية.
وعلى خلاف الردود على اللجنة الرباعية والتحفظ عنها, وعن بيانها وسياستها, كيل مديح عظيم لرأي المحكمة الدولية بلاهاي. ولا ريب في ان الرأي القانون الدولي يستحق المديح. فهو يدين مضاعفة سياسة الاستيطان المدمرة بسياسة تقطيع وحجز وتقييد, مسرحهما اراضٍ محتلة وشعب اسير. ومضاعفة السياستين الواحدة بالأخرى لا تجهر نية قصر الأرض الوطنية الفلسطينية على 55 في المئة من اراضي حزيران (يونيو) 1967 وحسب, بل تتعمد حمل شطر من الفلسطينيين على الهجرة الى الأردن. وتلافياً لهجرة ثالثة (بعد 1948 و1967) كبيرة تزعزع استقرار الأردن العسير, وتفاقِم تأزمَ علاقات جماعاته بعضها ببعض وتغذية هذا التأزم تيارات ومنازع "زرقاوية" ليست كامنة, اضطلعت الحكومة الأردنية بدور ناشط في استصدار الرأي الدولي على الشاكلة التي صدر عليها.
ولكن بعض ما بني على الرأي الاستشاري يذهب الى ابعد بكثير من علل الرأي القانوني وموجباته. فتوسلت به آراء فلسطينية وعربية مأذونة وأحلته محل معالجة المسألة الفلسطينية كلاً وجميعاً, من غير وساطة السياسة. فقال عرفات: "هذا انتصار لشعبنا وانتصار لكل الشعوب الأبية وحركات التحرر في العالم, ولكل القرارات والقوانين الدولية من اجل فلسطين والشرق الأوسط, وحفاظاً على السلام الدائم والشامل في المنطقة". ويدعو عرفات الى الغفلة عن ان رأياً قانونياً يدين انشاء حاجز في اراضي الغير, وتترتب عليه نتائج سياسية وقانونية واجتماعية, سكانية واقتصادية وإنسانية باهظة من شأنها تعطيل المفاوضات السياسية وإبطالها, لا يسوغ (الرأي القانوني) السكوت عن التبعات السياسية والقانونية والأمنية والإنسانية التي تستتبعها سياسات السلطة الوطنية في اراضيها, وفي شعبها ورعاياها ماضياً وحاضراً. فحكم اللجنة الرباعية, وعرفات يعلن عزمه على "التشاور" معها بعد صدور الرأي القانوني, في سياسته وسياسات حلفائه المعلنين والمواربين لا يخالف الرأي الاستشاري ولا يقيده, ولا يبطله بالأحرى.
ويحرق آخرون المراحل الى الدولة الفلسطينية "الديموقراطية". فيتوقعون, شأن احد اعيان جهاز الجامعة العربية الديبلوماسي, ان يحقق الرأي الاستشاري, ثم رفض الدولة العبرية التقيد به, عجز الدولة العبرية عن إنجـاز الدولتـين الموعودتين. والعجز الإسرائيلي المتوقع يترجمه "الديبلوماسي" المجرب - شأن شريك له في ناصريةِ طلابٍ ثانويين مزمنين تولى رئاس الوزارة غير مرة - اقتداراً عربياً ناجزاً على إنشاء ديموقراطية زاهرة على أنقاض الحروب الأهلية الفلسطينية - العربية (في الأردن ولبنان وبعض الخليج وسورية الى فلسطين نفسها), واليوم قبل الغد.
والقدرة الآلية والمعجزة هـذه لا تلبث ان يطوي سرابُها القوي والماثل المقدمات التي بني عليها توليدها او استيلادها (الاستدلالي والذهني). فإذا بالقدرة على إنشاء الديموقراطية الواحدة, والجامعة تحت جناحها الأعراق والديانات والثقافـات السياسية واللغات, تُفك من شرطها المفترض, وهو عجز الدولة العبرية وحدها, تؤيدها الولايات المتحدة الأميركية وحدها, عن قبول الدولتين, وانتفاضة المجتمع الدولي جراء الافتضاح الإسرائيلي, وقسره الدولة المتمردة على الامتثال. وإذا بها (بالقدرة الديموقراطية) بمتناول الإرادة العربية ويدها. وما على السياسات العربية أو الفلسطينية إلا الانضباط عليها والاهتداء بها. فترجع هذه السياسات من قرارات مجلس الأمن التاريخية و"الكبيرة", وكلها تقر لإسرائيل بالحق في دولة وأمن وحدود معترف بها, إلى إقـرارها "الديموقراطي" الأول, ربما من طريق "الكفاح المسلح", او "التوازن الاستراتيجي", او إغلاق مضيق تيران وحصار العقبة, لم لا.
وهذا ما تدعو إليه "حماس" و"الجبهة الشعبية" و"القيادة العامة" و"الصاعقة" و"جبهة التحرير العربية" و"كتائب الأقصى", ويدعو إليه "الجهاد" و"حزب الله". وفي ضوئه شنت بعض هذه المنظمات "حرب استقلالها" في خريف العام 2000, وطورتها, في شتاء 2002, الى العمليات المشهودة التي صورت لـ"عرب" كثر ان "بيت العنكبوت" الإسرائيلي, او اليهودي, يوشك ان ينهار, بل هو ينهار فعلاً ولكن "الأمركة" تحول بيننا وبين التنبه على الأمر الماثل والحاصل. وعليه تدعو الآراء المأذونة في الرأي الاستشاري الدولي الى استئناف السياسة التي نجم عنها الجدار الإسرائيلي, وأدت إليه, على حين ادى هو, اي الجدار, الى طي هذه السياسة وكسر شوكتها فعلاً وعملاً, ولو لم يطوِها خطابة ولا عزيمة ونية (والشاهد هو عملية "الكتائب" في 11 تموز).
فتنشأ حال غريبة بعض الشيء: يحتفل دعاةُ العمليات الانتحارية و"المقاومة بكل الأشكال المتاحة", وأصحابُ جبهة الأكفان وعشاق الموت, ولجانُ دعم المقاومة في فلسطين والعراق وجبهة الدفاع عن "الرئيس صدام حسين" (واللجان والجبهة واحد), وأصحاب "الأحاديث الخاوية" في الإصلاحات, والمنددون سراً وعلانية بالخطة المصرية, يحتفلون بانتصار القانون الدولي على "العنصرية" الإسرائيلية, ويحضون على انتهاج الطريق التي ادت الى الدمار الفلسطيني المقيم, والجدار جزء فادح وثقيل منه.
وفي ضوء ما ليس مفارقة, على خلاف ظاهر الأمر, قد يكون الرأي الاستشاري الدولي هدية مسمومة. فليس في مستطاع السلطة الفلسطينية, والمنظمات الأهلية العسكرية والأمنية التي تقوم من المجتمع الفلسطيني مقام سنده وأبنيته, الانتباه الى ما ينطوي عليه الرأي الدولي من دعوة الى الامتثال للقانون والحق بمنأى من السياسة. وهذه الدعوة تتوجه الى الإسرائيليين وسياسييهم وهيئاتهم (ومنها المحكمة العليا التي قضت قبل اسبوعين بأنفذ مما رأت فيه محكمة لاهاي رأيها) من غير شك. ولكنها تتوجه على كل من ينزعون الى إعلاء علل السياسة العصبية والاعتقادية فوق المعايير الحقوقية والقانونية العامة. وهؤلاء, بين ظهرانينا, هم الغالبون عدداً وحجة.

الحياة اللندنية