كان سعد زغلول وسعد الله الجابري ورشدي الكيخيا استثناءات ضمن مسار ليبرالية ما قبل عام 1952 (التي اصيبت بجرح بليغ في حرب 1948 لتدخل في الاحتضار قبل موتها في مصر بتموز 1952 وفي شهر آذار 1963 بسوريا) من حيث جمعهم بين حدي الليبرالية والوطنية، فيما كان الليبراليون العرب الآخرون يتعاملون مع لندن وباريس بطريقة تعامل شيوعيي موسكو العرب مع الكرملين نفسها .
لم يكن ظهور الليبرالية العربية الجديدة، في مرحلة ما بعد عام 1989، ناتجاً عن عوامل محلية، بل عن انهيار مركز عالمي في موسكو لصالح آخر في واشنطن حيث عبر ذلك عن قلق ثقافي عند الكثير من اتباع السوفيات القدماء وعن انزياحات عندهم من الماركسية إلى الليبرالية للمحافظة على أدوار ثقافية سياسية كانوا يحتلونها، عبر ارتباطهم سابقا بموسكو وأحزابها التي كان القسم الرئيسي منها متحالفا مع الانظمة ولكن عبر الارتباط بمركز عالمي جديد انتصر وهزم المركز الذي كانوا مرتبطين به.
وفي الحالات الليبرالية الأخرى والتي هي في وضعية مختلفة عن هؤلاء من حيث كونها أتت من حراك اجتماعي وعبرت عن بنية اجتماعية محلية وكانت ايضا سابقة النشوء عن عام 1989، مثل حالة الرئيس الشهيد رفيق الحريري أو حزب الوفد المصري الجديد ـ نجد امتزاجا بين الليبرالية والوطنية عند (الوفد) فيما جمع الرئيس الشهيد حدا ثالثا، هو العروبة، إلى الحدين المذكورين، وهو ما نجده ايضا لدى حزب الاستقلال في مراكش، حيث لم تمت الليبرالية هناك، بخلاف المشرق العربي، وإنما ظلت قائمة وعبر حزب اساسي في التركيبة السياسية، كان من اعمدة النضال الوطني ضد الفرنسيين، وجمع الليبرالية والوطنية والاسلام في بوتقة واحدة منسجمة.
بخلاف الحالات الثلاث المذكورة، فان الليبرالية الجديدة قد كانت أساساً انعكاساً لتطور عالمي انعكس محليا على الصعيد العربي، أكثر منها حراكا محليا، كما ان اتباعها لم يستطيعوا فصل انفسهم عن نشوء مركز ليبرالي عالمي (كما كانت موسكو بالنسبة للشيوعيين) اعلن عن برنامج ايديولوجي ـ سياسي ـ ثقافي للمنطقة عبر (مشروع الشرق الأوسط الكبير) 13 شباط 2004/و (مبادرة الشراكة) 9 حزيران 2004/بعد ان اتى إلى الشرق الأوسط عبر (بوابة بغداد) 9 نيسان 2003.
فهنا، لم يظهر حراك اجتماعي يؤدي إلى تبلور تيار ليبرالي، كما نجد في دول الكتلة السوفياتية السابقة، عندما حمل الأغنياء الجدد والفئات الوسطى المتبلورة والتكنوقراط كلاً من يلتسين وهافل (وغيرهما) إلى السلطة عبر صندوق الاقتراع، كما أننا لا نجد تأسيساً معرفياً عند الليبراليين العرب الجدد لطرحهم السياسي، وإنما مجرد ركوب لموجة عالمية، يرون أنها ستحمل نفساً "تنويرياً" و"تغييرياً" للمجتمعات والأنظمة وتقتلع "الظلاميين"، تماماً كما ركبوا موجة سوياتية كانت صاعدة بين عامي 1945 ـ 1975، وأرادوا استخدامها من أجل إحداث تغييرات محلية بدلاً من أن يبحثوا عن انبات محلي للخط الايديولوجي ـ السياسي.
كان ذلك واضحاً في مرحلة (ما بعد بغداد)، عندما لم يحسم فقط الكثير من الماركسيين السابقين خيارهم الايديولوجي باتجاه الليبرالية، بعد ان ظلوا لعقد ونصف من الزمن يتقبلون ويترددون بين (الاشتراكية الديموقراطية) و(الليبرالية) و(كوكتيل ايديولوجي يجمع الليبرالية والماركسية والقومية والاسلام)، وإنما أيضاً اصبح الكثير منهم (ولو ان بعضهم ما زال يعيش باطنية بين المكتوب والشفوي) يتبنون المشروع الاميركي الجديد للمنطقة علناً، وأصبحوا يعولون على "تغييرية" واشنطن، التي يقومون بتوحيد ماهية الليبرالية معها، كما كانوا يعملون بين الشيوعية وموسكو، او كما يفعل الكاثوليكي تجاه الفاتيكان والكثلكة.
كيف يمكن الفصل بين واشنطن والليبرالية، لتوحيد الأخيرة مع الوطنية بعيداً عن المشاريع الأجنبية التي تستهدف الهيمنة على المنطقة، في ظل وضع اصبح فيه واضحاً ان عدم استكمال المرحلة الليبرالية لمهامها عربياً، بعد انتكاسها وموتها في النصف الثاني من القرن العشرين، قد ادى إلى كثير من المآزق العربية الراهنة (وهو أمر تنبأ به عبد الله العروي وياسين الحافظ منذ الستينات)، وفي ظل حالة قائمة من الواضح أنها تتطلب عربياً، ولعوامل محلية أكثر منها عالمية، المرور في مرحلة ليبرالية يتم فيها انجاز مهام التحديث والتنمية؟