.. وأخيراً مرّ استفتاء 29 أيلول من هنا لكي يؤسس لجمهورية جزائرية جديدة، تطوي صفحة الماضي، وتحدد مساراً واضحاً تجاه كل المعضلات التي واجهت البلاد منذ مطلع تسعينات القرن الماضي. فقد جاب الرئيس بوتفليقة البلاد طولاً وعرضاً، ومن أقصى الشمال إلى تخوم الصحراء في الجنوب، وألقى عشرات الخطب في تجمعات حاشدة، وقطع الشك باليقين بالنسبة لعشرات القضايا العالقة والأسئلة المطروحة.
"ميثاق السلم والمصالحة الوطنية" الذي صوت عليه الشعب بأغلبية ساحقة، لا تقلل من أهميته الاصوات النشاز الصادرة من هنا أو من هناك، يندرج في سياق عام من الخطوات الرامية الى تضميد الجراح، وكفكفة الدموع، والتي التزم بها الرئيس الجزائري منذ وصوله إلى سدة الحكم في ربيع العام 1999.
فبعد عام واحد من انتخابه استهل ولايته الأولى باقرار قانون "الوئام المدني" عام 2000، بعد استفتاء مماثل أسفر عن نزول نحو ستة آلاف مسلح من الجبال، وانخراطهم في حياة المجتمع من جديد، وكان معظمهم من عناصر "الجيش الاسلامي للانقاذ" بقيادة مدني مزراق الذي أبدى حماسة واضحة للميثاق الجديد.
وكان الرئيس الجزائري قد اطلق فكرة المصالحة الشاملة في شهر تشرين الثاني من العام 2004 بمناسبة الاحتفالات بمرور خمسين سنة على تفجير ثورة الفاتح من نوفمبر 1954. وإذا كان الميثاق الجديد يفتح الباب واسعاً أمام عودة عشرات الزعامات المعارضة من الخارج، وأمام توبة المسلحين الذين ما زالوا في الجبال، وقد قدر عددهم يزيد ذرهوني وزير الداخلية بنحو الف عنصر ـ مئة من بينهم فقط يحملون السلاح ـ فان ميزة ميثاق المصالحة انه يعالج قضايا شائكة عديدة بحسم ووضوح.
على رأس هذه القضايا مستقبل "الجبهة الاسلامية للانقاذ" التي اتخذ قرار بطي صفحاتها نهائياً. فقد نبه الرئيس من "الذين في قلوبهم مرض"، مشيراً بذلك إلى الجهات التي لا تزال تطالب بعودة "الانقاذ"، وبالرجوع الى الانتخابات البرلمانية لعام 1991، ومضيفاً "ماذا اقول للأرامل، ماذا اقول لليتامى والثكالى وللدماء الزكية؟" وقد وصف انتقادات بعض المعارضين في الخارج "بنقيق الضفادع".
المسألة الأخرى الحساسة التي حسمها الرئيس هي مسألة اللغة الامازيغية، اذ قال بوضوح ـ في خطاب له في مدينة قسنطينة بتاريخ 22 ـ 9 ـ 2005 ـ "ان اللغة الامازيغية لن تكون لغة رسمية لأن ليس في العالم دولة لها "لغتان رسميتان"، مستعيدا بعض مقولات العلامة عبد الحميد بن باديس التي تقول "اننا عرق بربري عربه الاسلام"، مع العلم انه وافق في وقت سابق على اعتماد الامازيغية لغة وطنية ثانية. أما اطلاق صفة "الرسمية" عليها فدونه محاذير لا تخفى على أحد. لكن هذا "لا يغنينا عن تعلم هذه اللغة بلهجاتها المختلفة"، غير ان "الوحدة الوطنية فوق كل اعتبار" حسب تعابير الرئيس.
النقطة الثالثة التي جاء الاستفتاء اصلا من اجلها هي فتح باب المصالحة والعفو على مصراعيه سواء لجهة عودة المسلحين ـ الذين لم يرتكبوا جرائم ـ إلى دورة الحياة الاجتماعية، أو لجهة اغلاق ملف المفقودين الذين قدر عددهم بنحو ستة الاف (ومن بينهم أحد أقارب الرئيس)، وتبرئة رجال الأمن وقوات الجيش من أية تجاوزات. فقد دافع الرئيس بوتفليقة عن الجيش قائلا "لا يمكن وضعه كله في سلة واحدة، واذا كانت سلة الطماطم تحتوي على حبة فاسدة، فلا يتعين رمي كل السلة وانما رمي الحبة المتعفنة".
هذه هي الخطوط العريضة لولوج البلاد مرحلة جديدة، ولو ان حالة الطوارئ المعمول بها منذ 1992 لن ترفع على الفور. وقد اختصر الرئيس الجزائري خياره بقوله: "الجزائر لا نريدها دولة اسلامية، ولا نريدها دولة علمانية، بل نريدها دولة جمهورية جزائرية ديموقراطية شعبية".
المرحلة اللاحقة بعد الاستفتاء على ميثاق السلم والمصالحة الوطنية ستشهد اصدار حوالي عشرين قانوناً تطبيقياً، ومن ثم طرح تعديل دستور البلاد. ومن المعروف ان الجزائر وضعت اول دستور لها عام 1963 بعد استقلالها عن فرنسا عام 1962، في عهد أول رئيس لها احمد بن بلة. جاء بعد ذلك دستور 1976 الذي وضعه الرئيس الراحل هواري بومدين، واعتمد فيه خيار الحزب الواحد والنهج الاشتراكي، قبل ان يلغي الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في تعديل دستوري عام 1989 هذا الاتجاه، ويفتح الباب امام التعددية الحزبية، ويلغي النظام الاشتراكي، بعد انتفاضة الشباب في 5 تشرين الاول 1988. ومن ثم ادخل الرئيس السابق اليمين زروال تعديلاً على الدستور عام 1996 "قضى باحداث غرفة ثانية. وقد ابدى الرئيس بوتفليقة اكثر من مرة رغبته في تغييره، وسوف يشتمل التغيير المتوقع على نقطتين اساسيتين: الأولى تسمح للرئيس بالترشح لولاية ثالثة مدتها خمس سنوات، والثانية تقضي باعتماد النظام الرئاسي الذي يناسب ظروف البلاد، قبل الانتقال في مراحل لاحقة الى نظام برلماني صرف مع تطور المجتمع، كما أشار الى ذلك الممثل الرئاسي وأمين عام جبهة التحرير الوطني عبد العزيز بلخادم.
معنى ذلك ان الرئيس القوي الذي استطاع حتى الآن ادخال معظم مراكز القوى ـ ان لم يكن كلها، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية ـ الى بيت الطاعة، سيستند على حزب قوي يشكل الحكومة، وسوف يكون بالطبع حزب الجبهة الذي يحتل حالياً 200 مقعد في البرلمان، في حين ان حزب رئيس الحكومة الحالي احمد اويحيى "التجمع الوطني الديموقراطي" لا يحظى الا على 48 مقعداً.
الاستفتاء الاخير يضع اذن كل الأوراق بين يدي الرئيس بوتفليقة الذي ساعدته ظروف اقتصادية غير متوقعة، اذ وصل احتياطي البلاد من العملات الصعبة الى نحو 70 مليار دولار للمرة الأولى في تاريحها، ما يسمح له باطلاق عجلة التنمية على مصراعيها لامتصاص البؤس الاجتماعي، وتحويل الجزائر الى "تنين" افريقيا والعرب كما اشار بنفسه الى ذلك.