الثلاثاء: 08. 11. 2005

د. محمد عابد الجابري

عندما دخلت الدولة الأموية مراحلها الأخيرة كانت قد ورثت بالفعل الدولة الساسانية وحضارتها، ولم تعد تشكل ''الآخر'' لها كما كان الشأن بالنسبة للروم البيزنطيين· كانت علاقة الأمويين مع هؤلاء علاقة حرب، أما علاقتهم مع الفرس فقد صارت بمثابة علاقة الشخص مع أناه/ الآخر (= حبيبته، زوجته، أمه، ولده، صديقه، خادمه، صورته في المرآة··· إلخ)· لم يكن هناك بعد مع الروم غالب ولا مغلوب، حتى يقلد أحدهما الآخر، أما الفرس فقد صاروا المغلوب الذي يقلده الغالب، كما لاحظ ذلك ابن خلدون·
كانت الدولة الأموية قد قامت على أساس الغلبة ففرضت طاعتها على القبائل بالقوة، ولكن عندما استنزفتها الثورات الداخلية، في العقد الأخير من عمرها، وجدت نفسها في حاجة إلى وسيلة تساعدها على فرض طاعتها بعد أن لم تعد القوة القبلية العسكرية تكفي وحدها· وهكذا كان أول ما ''قلد فيه الغالب المغلوب'' أسلوب الحكم والأساس الذي يقوم عليه، فعلاً، كان أول مظهر حضاري ثقافي استعارته وتبنته الدولة الأموية عبر الإمبراطورية الفارسية المنهارة هو إيديولوجيا الطاعة· وقد تجند لنشر هذه الإيديولوجيا كتاب اشتهروا بـ''ابتكار'' نوع من الخطاب جديد على الثقافة العربية، هو ما عرف بـ''الخطابة والترسل''، والمقصود كتابة الخطب البليغة للأمراء، والرسائل السلطانية ''الطنانة'' الموجهة إلى الولاة وعموم الناس، بهدف حثهم على الطاعة، مُوظِّفين في ذلك آيات قرآنية وأحاديث نبوية وعبارات بليغة·· إلخ· وقد ''برع'' في هذا النوع من الخطاب بعض كبار موظفي الدولة، وعلى رأسهم سالم وتلميذه عبدالحميد الملقب بـ''الكاتب''·
وعندما قامت الثورة التي أطاحت بالأمويين والتي ساهم فيها العنصر الفارسي مساهمة حاسمة تبنت الدولة العباسية منذ مؤسسها الفعلي، أبي جعفر المنصور، النمط الساساني في الحكم، حتى أصبح الفرس يستعيدون من خلاله في مخيالهم الحضاري دولة ''أردشير''، مؤسس الأسرة الساسانية· ومن هنا كان أهم ما تجلى فيه حضور النمط الثقافي الفارسي في الثقافة العربية هو ميدان ''السياسة والأخلاق''، إذ شاعت القيم الكسروية المكرسة للطاعة في نمط من الكتابة خاص أطلق عليه اسم ''الآداب السلطانية''، وقد كرسها ابن المقفع وغيره نقلاً عن الفارسية، ترجمة وتلخيصاً وإعادة صياغة·
ذلك هو المظهر البارز لحضور الموروث الفارسي في الثقافة العربية، وهو مظهر لا نجد له أصلاً مباشراً في الحضارات السابقة، مما يحمل على القول إنه كان يمثل خصوصية الدولة الساسانية·
أما الموروث اليوناني فشأنه يختلف، فمن المسلم به منذ القديم أن اليونان بنوا ثقافتهم على فلك الكلدانيين والبابليين وعلوم المصريين القدماء· ولاشك في أن هؤلاء وأولئك قد أخذوا من آخرين سبقوهم، إما من داخل نفس الفضاء الحضاري أو من خارجه، ولكن معرفتنا الآن تقف عند هذه الواقعة وهي أن اليونان ارتكزوا في تشييد ثقافتهم على ما أنجزه الكلدانيون والبابليون والمصريون· ويجب ألا ننسى أن طاليس، ''مؤسس'' العلم والفلسفة اليونانيين، وأفلاطون الذي بلغ بالفلسفة اليونانية أوجها، وغيرهما من فلاسفة اليونان وعلمائهم، قد زاروا مصر وكان لهم معها اتصال ثقافي· وعندما بلغت ''المعجزة'' اليونانية مع أرسطو قمة أوجها اتجهت صوب الشرق، نحو إيران، عن طريق غزوات الإسكندر، فتركت بصمات قوية عميقة ساهمت في نقل الثقافة الفارسية القديمة إلى مستوى أعلى مكنها من أن تلج فضاء ''العالمية'' من جديد· أما عندما تدهور الوضع في بلاد اليونان فقد اتجهت سفن علومهم وفلسفتهم وأساتذة مدارسهم إلى الإسكندرية، في القرن الثالث الميلادي، فصارت هذه مركزاً ثقافياً عالمياً امتزجت فيه الفلسفة والعلوم اليونانية بالثقافة المصرية القديمة فأثمر ذلك علماء كباراً أمثال أوقليدس وأرخميدس وبطليموس، إلى جانب ذلك المركب الفلسفي الديني العلمي الخرافي المتنوع إلى درجة يفقد معها مفهوم ''الأصل'' معناه تماماً· أعني بذلك ما عرف بالفلسفة الدينية الهرمسية، التي غادرت الإسكندرية، هي والفلسفة والعلوم اليونانيان، مع بزوغ فجر الإسلام، في رحلة طويلة تمت على مراحل، من الإسكندرية إلى بغداد· لقد استغرق انتقال الفلسفة والعلوم اليونانية من أثينا إلى بغداد نحو عشرة قرون (من وفاة الإسكندر سنة 323 قبل الميلاد إلى القرن الثامن الميلادي) استقرت خلالها مدداً مختلفة بكل من مصر وفلسطين وسوريا وإيران والعراق، في مراكز كان ''الأصل'' يتجدد فيها كل مرة· ولم يمر سوى نحو قرنين من الزمان على استقرار ''علوم الأوائل'' في بغداد، حتى أخذت تتحرك في رحلة جديدة نحو الغرب الإسلامي حيث ستدخل مرحلة جديدة تماماً في قرطبة عاصمة العلم والفلسفة في عصرها·
فعلاً لم تكن الحضارة العربية في الأندلس مجرد امتداد ذيلي لنفس الحضارة كما احتضنتها دمشق وبغداد ثم القاهرة· كلا، إن التجربة الأندلسية للحضارة العربية الإسلامية كانت بداية جديدة، وإذا شئنا قلنا تجديداً وميلاداً لنفس الحضارة· لقد قامت في الغرب الإسلامي، ومنذ وقت مبكر، إمارتان مستقلتان عن سلطة الخليفة العباسي· فبعد سقوط الدولة الأموية مباشرة، فر إلى الأندلس الأمير عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك بن مروان، المعروف بعبدالرحمن الداخل فأسس هناك الإمارة الأموية سنة 138 هـ، التي أرادت أن تكون استمراراً للدولة الأموية في المشرق· وبعد ثلاثة عقود فر إدريس بن عبدالله إلى المغرب الأقصى سنة 172هـ/،789 بعد فشل العلويين (الشيعة) في ثوراتهم على العباسيين في المشرق، فالتَفت حوله بعض القبائل المغربية، فتأسست في السنة نفسها دولة الأدارسة التي استقلت عن الخلافة العباسية· وهكذا خرج المغرب والأندلس من يد الدولة العباسية نهائياً وبدأ فيهما ''زمن سياسي'' آخر مستقل عن الزمن السياسي العباسي في المشرق· وعندما نجحت الشيعة الإسماعيلية في إقامة دولتها بأفريقية (تونس) لتنتقل إلى مصر (= الدولة الفاطمية) صار الأمويون بالأندلس مهددين بـ''آخر'' ثانٍ، هو الخلافة الفاطمية بالذات، خصوصاً وقد كان لها ولاة وحلفاء في المغرب ذاته· وهكذا وجدت الدولة الأموية الفتية بالأندلس نفسها أمام خصمين تاريخيين، الخلافة العباسية والخلافة الفاطمية، يشكلان معاً ''الآخر'' بالنسبة لها، ويجعلان بالتالي زمنها السياسي زمناً واحداً مستقلاً عن الزمن السياسي العباسي والزمن السياسي الفاطمي· ولما كان هذان الأخيران تؤسسهما إيديولوجيتان متناحرتان (المذهب السني الأشعري من جهة والمذهب الشيعي الباطني من جهة أخرى) فإن الزمن السياسي الأموي في الأندلس سيكون بالضرورة ضدهما معاً وسيبحث بالتالي عن أساس إيديولوجي خاص به·
غير أن تأسيس إيديولوجيا جديدة (حتى ولو كان ذلك في حدود اتخاذ موقف متميز داخل الدائرة الدينية الكبرى للإسلام، كما هو الحال هنا) لا يمكن أن يتم بمثل هذه السرعة التي يتم بها إنشاء إمارة أو تأسيس دولة· وإذا أخذنا بعين الاعتبار بُعد الأندلس والمغرب عن مركز التيارات الإيديولوجية المتصارعة في الإسلام (شيعة، معتزلة، أشاعرة··)، وأن الفتح الإسلامي قد ''مسح الطاولة'' فيهما بالمرة حيث لم يعد فيهما أي دور لـ''بنية المعتقدات القديمة'' في الأحداث السياسية والتيارات الفكرية، التي عرفها هذان البلدان بعد استقرار الإسلام فيهما، إذا أخذنا بعين الاعتبار هذين الجانبين سهل علينا أن نفهم كيف أن الأمويين بالأندلس قد عملوا على استعادة نفس الإيديولوجيا التي كانت لدولتهم في المشرق· وهذا حقق لهم الاستمرارية على المستوى الفكري· لقد كان لابد إذن لحركة ''التجديد'' و''المنافسة'' الضرورية للأمويين في الأندلس، من أجل تأسيس اتجاه إيديولوجي خاص بهم، من تجاوز جميع العناصر والاتجاهات الفكرية، الفقهية والعقدية التي يوظفها ''الآخر'' المزدوج: العباسي- الفاطمي· وبما أن النظم المعرفية المتنافسة في الثقافة العربية آنذاك كانت ثلاثة: ''البيان'' و''البرهان'' و''العرفان''، وبما أنه ليس في الإمكان إضافة نظام- معرفي ثالث، فإن عملية التجاوز المطلوبة لابد أن تتحرك على مستوى العلاقة بين هذه النظم نفسها·
ولما كان ''العرفان'' هو الذي يؤسس إيديولوجيا ''الآخر''-الفاطمي، ولما كانت إيديولوجيا ''الآخر''-العباسي تقوم على محاولة الجمع بين ''البيان'' و''البرهان'' تارة، وبين ''البيان'' و''العرفان'' تارة أخرى، فإن عملية التجاوز المطلوبة لابد أن تبحث لنفسها عن طريقة جديدة في التعامل مع هذه النظم المعرفية الثلاثة التي تؤسس ثلاثة اتجاهات ثقافية وسياسية·
وهذا ما تم تدشين العمل فيه في الأندلس مع ابن حزم ''الظاهري''·