الجمعة:09. 12. 2005

شيء ما
د. حسن مدن


طالما كان حديثنا أمس عن الكتب، فبوسعنا الاستمرار هذا اليوم أيضاً في الحديث ذاته. علينا أن نطرح أولاً هذا السؤال: هل تستخدمون النظارات اثناء القراءة. اذا كان الجواب بالنفي فعليّ أن أغبطكم، واذا كان الجواب بالإيجاب، فليس ثمة ما يدعو للقلق، فلقد اطلعت في كتاب عن ldquo;تاريخ القراءةrdquo; على معلومة طريفة تقول ان ستة أعشار البشر يعانون من قصر النظر. هذه النسبة ستزداد في صفوف اولئك الذين يعنيهم أمر القراءة. واذا كنت من هؤلاء فبوسعك التباهي بكونك، في هذا الأمر، زميلاً لأرسطو ولوثر وشوبنهاور وغوته وشيللر ودانتي وكيبلنغ وطاغور وقائمة أخرى تطول من كبار المبدعين الذيي كانوا يعانون من ضعف النظر، ولدى بعض هؤلاء كان الأمر يزداد تردياً مع مرور الوقت، بورخيس الارجنتيني لم يكن في الأصل أعمى، وانما أخذ بصره يخبو مع الوقت في الثلاثينات من القرن العشرين. من المفارقات انه أصبح مديراً للمكتبة الوطنية الارجنتينية بعد ان اصبح مكفوفاً تماماً. كان وسط الكتب ولكن لم يكن بوسعه قراءتها. سيعبر عن هذه المفارقة المؤلمة شعراً بالقول: ldquo;لا تذرفوا الدموع بكاء، ولا تلوموا مشيئة الله، الذي حباني بهذه السخرية العظيمة في آن/ الظلمة والكتبrdquo;.

سيعقد بورخيس مقارنة مؤثرة بين رجل كفيف محاط بالكتب ومصير احد الملوك الذي مات جوعاً وعطشاً رغم انه كان محاطاً بكل ما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات. ثمة حكاية أخرى ينقلها مؤلف ldquo;تاريخ القراءةrdquo; عن حلقة في مسلسل تلفزيوني تصور قارئاً نهماً للكتب ينجو وحده اثر كارثة نووية، حيث تصبح جميع كتب العالم تحت تصرفه إلا أن نظارته تنكسر بالصدفة فلا يعود بوسعه قراءة شيء!

ماذا كنا سنفعل من دون النظارات؟

علينا فقط تصور معاناة أسلافنا الذين كانوا مولعين بالكتب، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون القراءة لأن نظرهم لا يسعفهم في ذلك. يقال إنهم كانوا يحتاجون الى أحرف مكتوبة بخط كبير فوق العادة للتمكن من قراءة نص ما. يقال إنه لم يكن لدى القراء الذين يعانون من قصر النظر في بابل وروما واليونان القديمة من حل سوى الطلب من خدمهم قراءة الكتب عليهم.

من هو ذلك العبقري النبيل الذي اخترع النظارات فأراح البشر من المعاناة؟

الإجابة عن هذا السؤال ليست متاحة. ولكن يقال إنه في مطالع القرن الرابع الميلادي (بالضبط في فبراير/شباط 306) ألقى أحد كبار رجال الدين موعظة في إحدى كنائس فلورنسا مذكراً الرعية بمناسبة مرور عشرين عاماً على اختراع النظارات: ldquo;إنني رأيت الرجل الذي كان أول من اخترع النظارات وأنتج بعضها وتحدثت إليهrdquo;.. هكذ أكد الواعظ.. تعددت الروايات حول من يكون هذا الرجل. احد الاحتمالات يذهب نحو رجل اسمه آرماتي الذي كتب على قبره الموجود حتى اليوم في كنيسة سانتا ماريا ماغيورا في فلورنسا العبارة التالية: ldquo;مخترع النظاراتrdquo; وتحتها العبارة الإضافية التالية: ldquo;ليغفر الله له خطاياهrdquo;. بعد ذلك بنحو عشرة قرون، في القرن الرابع عشر، سيغدو الكتاب مصحوباً برمز آخر هو النظارة. في هذا القرن بالذات أخذت النظارات تظهر في اللوحات الفنية للإشارة الى ثقافة وذكاء شخص ما.

حالياً بوسع قرص رقيق جداً وصغير جداً اسمه العدسة أن يغنينا عن النظارة. أو أن ldquo;تشطيباًrdquo; محدوداً ينجزه طبيب عيون ماهر يجعل من هذه النظارة ماضياً في حياة صاحبها، قارئاً كان أو غير مكترث بالكتب.