سنوات الحصار والتقشف ومواجهة quot;الاخوانquot; والانفتاح الحذر

إعداد: عبير بسام

في اوائل الثمانينات من القرن المنصرم، مرت الجمهورية العربية السورية بظروف اقتصادية صعبة نتيجة الحصار الاقتصادي والسياسي الذي فرضته عليها الولايات المتحدة الاميركية. وكانت مجموعات الاخوان المسلمين قد نشطت في تلك الآونة عبر التفجيرات التي طاولت المدنيين السوريين في مدن سورية عديدة. وكانت نتيجة ملاحقة هذه الجماعات حصار مدينة حماه، معقل الجماعات الاسلامية، وتدميرها ثم اعادة بنائها.

فتاة لبنانية عاشت في سورية خلال تلك الفترة وعايشت الاحداث التي جرت فيها. تروي في هذه الشهادة الذاتية عيشها في درعا ثم في مدينة دمشق، وتتحدث عن حبها لسورية التي استقبلت اجدادها واهلها قبلها، قبل ان تعود الى لبنان اواسط التسعينات.


نشأت وترعرعت في مدينة درعا الواقعة جنوبي سورية بالقرب من الحدود الأردنية. وعندما اجيل النظر الى الوراء، زمن الطفولة, أجدني مزيجاً عجيباً من الهويات. لهجتي الدمشقية اولا، وقيد السجل العائلي الحوراني, وانتساب عائلتي الى جنوب لبنان. رغم هذا التعدد في هوياتي الشخصية لم اشعر اني بلا هوية.

كنت جزءاً لا يتجزأ من المجتمع السوري في مدينة درعا الجنوبية حيث استطاعت عائلة جدي لوالدتي أن تؤسس لها مكانة اجتماعية واقتصادية جيدة. فمن هذه العائلة تخرّج الأطباء والمهندسون وخريجو الجامعات من فروع الدراسات العليا، وتخرّج حرفيون مهرة وأصحاب أعمال وبيوت. وبقي حال العائلة على هذا المنوال من الراحة وحسن المعيشة حتى عودة اهلي، امي وابي الى لبنان في عام 1996.

ولكن قبل عودتنا الى لبنان كنا قد انتقلنا للعيش في العاصمة السورية دمشق في اواسط الثمانينات من القرن المنصرم. وكانت الأوضاع السياسية والاقتصادية صعبة في تلك الأيام، وكان قد فرض على سورية آنذاك حصار اقتصادي بسبب المواقف السياسية السورية من دعم القضية الفلسطينية ومحاربة اسرائيل. أضف الى ذلك التعاون الوثيق الذي ربط سورية والإتحاد السوفياتي والدعم السياسي الذي كان يؤمنه لها هذا التحالف في المحافل الدولية, والذي رأت فيه سورية مخرجا لها من ازماتها في أمور كبيرة وأحياناً مصيرية، مثل تسليح الجيش السوري وتحديثه, وإقامة دورات تدريبية للضباط، والإعتماد على الخبرات السوفياتية في انشاء سد الفرات.

لم يكن الحصار على طريقة فرض العقوبات الدارج في هذه الأيام, وإنما كان حصارا سياسيا للدول التي تحاول فتح علاقات تجارية مع الدولة التي تتلقى العقوبات. وعلى سبيل المثال، كان والدي دبلوماسيا في جامعة الدول العربية, وكان يعلم ان صفقة وقعت بين سورية وتونس لشراء الليمون وبعد أن تم توقيع الإتفاق الصفقة, قامت الحكومة التونسية بالتراجع عنه من دون سبب معلن، ودار الحديث في تلك الآونة ان اعتراضا اميركيا قوي اللهجة وجه الى تونس.


حلم السيارات والرفاهية

انقسم المواطنون السوريون بين مؤيد لسياسة الدولة السورية ومطالب بنوعية حياة اقتصادية شبيهة بتلك التي يحياها المواطنون الأردنيون حيث يتبع نظام التجارة الحرًة والمشاريع الخاصة. فبعد وصول حزب البعث الى سدة السلطة في سورية على اثر الحركة التصحيحية الاصلاحية التي قام بها حافظ الاسد، تم تأميم جميع مصادر الانتاج والمؤسسات الخاصة واصبحت جميعها ملكا للدولة. وأصبحت وسائل الرفاهية حكراً على طبقة خاصة من الناس يمكن تسميتها quot;برأسمالية الدولةquot; وهي طبقة اجتماعية جديدة, تشبه تلك التي نشأت في معسكر الدول الشيوعية, والتي اعتمدت على مواقعها القيادية والمميزة كي تبني لنفسها مالاً وسلطةً من حساب الناس. وهذا أمر لم يكن ليغفل عنه أحد, وكان الجميع يراقبه ويوليه عنايته بشكل من الأشكال. تجلى ذلك بوضوح في الضريبة الكبيرة التي فرضت على السيارات الخاصة والتي وصلت حتى 200 في المئة من سعر السيارة بحسب ما تقدره الدولة. واذا كان أحد ما يريد شراء سيارة كان عليه أن يسجل اسمه في احدى دوائر الدولة ليحصل على واحدة بعد اشهر او سنوات عديدة.

اذكر أنه عندما حصل ثلاثة من أخوالي على سيارات المازدا في 1987 فإن انتظارهم لها كان قد طال لمدة ثمانية سنوات على الأقل، فيما كان أبناء الضباط والمسؤولون يسرحون ويمرحون بسيارات الدولة التي كانت تفرز لآبائهم الضباط أو المدراء العامين في مختلف وزارات الدولة. وأذكر أنه في عام 1990 في أحد أيام رمضان وقبل المغرب بساعتين, اقترحت صديقتي وجارتنا أن نخرج في جولة في السيارة مع أحد الأصدقاء كي نمرر الوقت قبل حلول موعد الإفطار. حين خرجنا في الجولة التي تدور فيها السيارات ما بين واحدة من أفخم مناطق دمشق وهي quot;أبو رمانةquot; وما بين الطريق المؤدية الى قصر الضيافة القديم عبر الشوارع الممتدة خلف فندق الميريديان، فوجئت ان جميع الشبان والشابات الذين يقودون السيارات كانوا في سن ما بين السابعة عشرة والرابعة والعشرين كحد أقصى. معظم السيارات التي دارت في هذه الدورة او quot;الكزدورةquot; كانت تحمل لوحات تسجيل خاصة بالجيش أو بأمن الدولة أو أحد مؤسساتها فهؤلاء الشبان يقودون سيارات آائهم التي وضعتها مؤسسات الدولة تحت تصرفهم للقيام بمهامهم الموكلة اليهم.

استعراض الشبان والشابات في أحدث السيارات كان يشعر كثيراً من السوريين بالأسى، اذ لم يكن الجميع قادرين على امتلاك هذا النوع من الرفاهية, وهذا ما كان يعتبره سوريون بأنه ما يميز اللبنانيين عنهم، لان هؤلاء الاخيرين يمكنهم شراء سيارات حديثة باسعار زهيدة نسبيا بالنسبة للاسعار التي كانت متداولة في سورية.


تفجيرات الاخوان المسلمين

ولم يكن ذلك الأسوأ ولكن ذلك كان فقط ما تلاه. فجميع الحوادث والنتائج جاءت متلازمة. فأحدى النتائج التي ترافقت مع سوء الوضع الأمني هو الطلب من جميع الطلاب العرب والسوريين الحصول على موافقات أمنية من أحد فروع المخابرات للتقدم بطلب كشف علامات أو للتقدم الى احدى دورات الجامعة الإستثنائية من أجل التخرج. وكان ذلك يكلّف الطلاب مدة زمنية قد تصل حتى الستة أشهر أحياناً.

وفي العودة الى الخلف, الى فجر أحد الأيام من أواخر السبعينات, استيقظت مدينة درعا على صوت انفجار مدو أطلق وراءه صراخ وبكاء جميع الأطفال النائمين, بمن فيهم نحن. واتضح الأمر قبل نهاية النهار. لقد كان المتسبب مجموعة تحضر لزرع عبوة متفجرة في المدينة. وكانت المجموعة, وبحسب ما عرفنا في ما بعد, تابعة لتنظيم الإخوان المسلمين.

جاء هذا التفجير من ضمن سلسلة من التفجيرات التي تعرضت لها مدينة دمشق وعدد من المدن السورية. وكانت تستهدف المدنيين والحافلات التي تقلّهم. كان يظن وقتها أن مدينة درعا بعيدة عن نطاق الخطر, لأن درعا كانت تعتبر مدينة هادئة جداً ولم تحتضن الكثير من المجموعات الاسلامية او السياسية ولم تجر فيها نشاطات سياسية او دينية او غيرها من الاعمال المشبوهة.

كانت تدس العبوات التي تفجر عن بعد في البولمانات التي تنقل المسافرين ما بين المدن. وتفجيرات الحافلات كانت تحدث في أكثر مناطق دمشق حيوية واكتظاظاً واهمها منطقة البرامكة. في كل الأحوال جاء تفجير درعا بمثابة النهاية بالنسبة الى مجموعات الإخوان المسلمين، وانهارت بعد ذلك مجموعاتهم الواحدة تلو الأخرى ومن ثم كان حصار حماه.


سوء العلاقة السورية العراقية

كانت تلك الفترة والتي امتدت تقريباً ما بين 1978 - 1980 فترة مخيفة جداً, بخاصة بعد تفجير الأزبكية في شارع بغداد الذي طال الناس في البيوت كما في الشوارع بعد أن هدم قسماً منها. لم يظن أحد أنه من الممكن أن يصل الخطر الى ذلك الحد. نسي الناس يومها محارم الورق والليمون والسيارات والوقوف طويلاً بانتظار دورهم من أجل شراء ربطة خبز. والتف الجميع فعلياً حول الدولة: نعمتان لا تدركان إلا إذا فقدتا, الصحة والأمان.

عرض التلفزيون السوري في تلك الفترة تفجير الأزبكية بالمشاهد والصور. وكانت المناظر مفاجأة للجميع. وكانت تلك المرة الأولى التي يعرض فيها التلفزيون مناظر التفجيرات. اذ كان وبشكل عام هناك تعتيم اعلامي مرئي. كنا نعلم ما يحدث من خلال الشهود الذين كانوا يخبرون عن هول التفجيرات, ولكن في ذلك اليوم رأينا جميعنا في سورية هول ما يحدث: رجال ونساء بلا أطراف, وآخرون ينزفون من عيونهم, هذا المنظر بالذات لن أنساه في حياتي. استطعنا يومها أن نتعلم التعامل بصبر مع اجراءات التفتيش عند مداخل الكراجات وقبل الصعود الى الحافلات.

منذ سنتين كنا في دمشق أنا وأخوتي, وكنا يومها نجلس نحن وبعض أصدقائنا وجيراننا من أهالي دمشق وحلب وبدأنا نتذكر حوادث تلك الأيام وحجم فظائعها وعن الخوف الذي كنا نشعر به وخصوصاً نحن النساء والبنات, فقد كان وقتها هؤلاء المتشددون يقومون برش ماء النار في الشوارع على كل من تسوّل لها نفسها ارتداء السروال. واذكر في العام 1984 بينما كنا نمر أمام المدينة الجامعية في دمشق وكان هناك تجمهر كبير اقترب ابن عمي و سأل عما يحدث, فقيل له لقد رميت فتاة بماء النار. الأمر لم يكن مجرد أحاديث شارع بل كان حقيقة. كانت هذه المحاولات تقع ضمن محاولات لقلب النظام في سورية, ومهما يكن سببها فقد جاءت بالطريقة الأكثر بشاعة. وساءت العلاقات في تلك الفترة ما بين سورية والأردن كثيراً, اذ حسبما عرف آنذاك ان هذه المجموعات كانت تدرب وتنطلق من هناك أحياناً ومن العراق أحياناً أخرى.

ثم أعقب ذلك سوء العلاقات مع العراق بسبب التزام سورية موقفاً تجلى بالصمت الإعلامي حول الحرب العراقية-الإيرانية. اذ كان الموقف الرسمي يقف ضد الحرب. ساءت العلاقات جداً مع العراق في نهاية السبعينات وهاجم وقتها الأمن العراقي السفارة السورية واحتجز دبلوماسييها, وعاد فأطلقهم, وأغلقت السفارات ما بين البلدين. وبقي جواز السفر السوري حتى التسعينات يختم عليه جميع البلدان العربية والأجنبية ما عدا العراق.


تدمير حماه وبناؤها

كان حديثنا مع أصدقائنا مهماً للغاية بعد أن قضيت بضع سنين في لبنان كنت قد قرأت خلالها ما تداولته الصحف اللبنانية القديمة وبعض الصحافيين الأجانب من أمثال روبرت فسك وتوماس فريدمان عن حماه. يومها اتفقنا, وإياهم على أن الطريقة التي أديرت بها قضية مسببي الحوادث من الإخوان المسلمين في سورية كانت الأفضل وأنه بغير ذلك كان يمكن أن يقع البلد في آتون حرب أهلية لم يكن ليعرف أولها من آخرها في وقت كانت فيه الحرب الأهلية في لبنان تشكل مصدر قلق للسوريين.

هدأت الأحوال كثيراً بعد حصار حماه. في ذلك العام وبسبب الإغلاق المتكرر والطويل للمدارس هناك, لم يمتحن الطلاب بالمنهاج كاملاً. حتى أنه وللمرة الأولى يطلب من الطلاب في الإمتحانات الرسمية الإعدادية, أي المتوسطة, في مادة الجغرافيا رسم خريطة سورية وتحديد الأنهار الرئيسية وأماكن بعض الزراعات الرئيسة, كالقمح والقطن, والحدود فقط. في حين كان سؤال كهذا يتناول في كل عام دولة عربية ما وكان الطلاب يحسبون لذلك ألف حساب. طبعاً أعيد بناء مدينة حماة, ولكن احدى حاراتها القديمة والمهمة وهي حارة الكيلاني قد أزيلت تماماً. وعاد من خرج من حماة قبل الهجوم وتم التعويض لهم. وحتى أنه أعيد ترميم نواعير حماة الشهيرة بشكل كامل. بعد بضع سنوات ذهبنا لزيارة عائلة زوجة خالي وهي من الكيلانية, لم يبق وقتها أي آثار للحصار. تحدث البعض قليلاً في الموضوع, تحدثوا عن السراديب التي كانت موجودة, وعن البيوت القديمة المبنية من الحجر الأبيض. ولا أدري كم من القصص والتأثيرات تركت خلفاً, ولكنني ومع أنني ذهبت الى حماة مراراً إلا أنني لم أسمع أحداً يذكر شيئاً عن الموضوع بعد ذلك. كان يبدو أن الجميع قد ترك الأمر وراءه.