إذا صحّت الأنباء عن اعتزام عبد الحليم خدّام، نائب الرئيس السوري، التنحّي عن مسؤولياته السياسية والحزبية، فإنّ الأسباب الحقيقية ليست بأية حال ذات صلة بما تناقلته معظم وكالات الأنباء العربية والدولية، أيّ ما تردّد عن نقاش حادّ مع وزير الخارجية فاروق الشرع، حول سياسة سورية الخارجية إجمالاً والتطوّرات الأخيرة في لبنان خصوصاً.

إنها، لا مفرّ من القول، نكتة سمجة سوداء سخيفة أن يتنحي خدّام لأسباب مثل هذه، والأبسط ــ والأوضح أيضاً في عيون سواد السوريين ــ هو أنّه يصفّي أعماله قبيل دنوّ العاصفة الوشيكة، تماماً كما يفعل الآن أيضاً عدد من مافيات السلطة الآباء والأبناء والشركاء. وليس بعيداً عن شخصية خدّام ذلك التكتيك الفاضح الذي يضرب عصفورين بحجر واحد: استباق الرياح التي تنذر بالعاصفة ونفض اليد في هذه الأزمنة القصيرة الفاصلة قبيل ساعة الحساب، ومَسْرَحة هذا كلّه في صيغة خروج من السلطة ناقد و مشرّف و بطولي تختصره العبارة الساحرة التي نُسبت إليه: 61 سنة في العمل العام... يكفي يا رفاق!

والحال أنّ قلّة قليلة فقط من هؤلاء الرفاق، إذْ أنّ المرء لا يعدم حتي اليوم ذلك النوع المسطّح المبرمج الآلي الغبيّ البليد من الرفاق البعثيين، سوف تنطلي عليه هذه اللعبة المكشوفة. إنهم، تماماً كمعظم أبناء الشعب السوري، يعرفون أين كان الرفيق خدّام منذ انقلاب 1963، حين استولي الضبّاط البعثيون علي السلطة بعد أن أحالوا الضبّاط الناصريين إلي رفوف التاريخ. وأين كان ساعة تنفيذ الإنقلاب الثاني في 23 شباط (فبراير) 1969، حين قبضت علي السلطة تلك المجموعة التي تُسمّي يسار البعث ، فجاءت بحافظ الأسد والفريق الأمني ـ العسكري الذي سيقوم بالإنقلاب الثالث، أو الحركة التصحيحية ، في تشرين الأول (أكتوبر) 1970.

كذلك يعرف البعثيون، مثل أبناء سورية، أين كان الرفيق خدّام طيلة الـ 35 سنة التالية: منذ 1970 وحتي 1984، في وزارة الخارجية تحديداً وبوصفه أوّل منفّذي السياسات الخارجية التي كان الأسد يرسمها، وأشرس المنفّذين منذ العام 1975 في الملفّ اللبناني بصفة خاصة، وأشدّهم غطرسة وعنفاً لفظياً وهوساً باستخدام الهراوة الغليظة؛ ومنذ 1984 وحتي اليوم، كنائب أوّل للرئيس في عهد حافظ الأسد ثمّ وريثه بشار الأسد، وكعضو في القيادة القطرية، والقيادة القومية، والدائرة الأضيق التي تناقش أو تتخذ القرار الأعلي في سورية المعاصرة. إنه، لكي لا يغيب أبداً عن الأذهان، أشدّ كارهي ربيع دمشق ، ومتعبّدي سلطة الحزب الواحد، وعشّاق الأحكام العرفية ومحكمة أمن الدولة...

وعلى امتداد السنوات ظلّ خدّام وفياً كلّ الوفاء لتوجّهات وتوجيهات سيّده حافظ الأسد في مسائل السياسة الخارجية، التي كان الأخير يرسمها بنفسه ووحده تقريباً، بدقّة الفرجال والمسطرة، وبتفصيل شديد صارم لا يترك لأدوات التنفيذ أيّ هامش للاجتهاد، وبالتالي لارتكاب الخطأ الذي قد يسفر عن إفساد التخطيط المحكم. وهكذا فإنّ خدّام لم يكن، في عبارة أخري، صانع سياسة خارجية بقدر ما كان منفّذاً بارعاً طيّعاً مطيعاً وصاحب أسلوب خاصّ في التطويع وتصنيع الطاعة.

الخطوط العريضة في السياسة الخارجية التي صاغها حافظ الأسد كانت جميعها تهدف إلي خدمة الهدف الأكبر والأساسي، أي الحفاظ علي أمن النظام واستمراره في البقاء، وخلق شروط داخلية وإقليمية تُكسبه ما أمكن من أسباب القوّة والمنعة والقدرة علي المناورة الواسعة، وتنظيم الهجوم المضادّ في الوقت المناسب، فضلاً عن ضمان سكوت القوي الكبري عن سياسات الإستبداد والبطش وقهر الحرّيات التي يمارسها النظام ضدّ الشعب في الداخل (كما في السكوت الدولي الفاضح عن حملات الاعتقال المتواصلة، وسلسلة المجازر التي ارتكبها النظام بين 1979 و1982، خصوصاً مجزرة حماة، 1982).

كذلك توجّب أن تخلق السياسة الخارجية ما يشبه الإقتصاد السياسي، كما في ابتزاز مجلس التعاون الخليجي عن طريق التحالف مع إيران أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية. كما توجّب أن تُسخّر جميع خيارات السياسة الخارجية لتحويل النظام إلي لاعب إقليمي لا يُستغني عنه، سواء عن طريق تقديم الخدمات (المشاركة عسكرياً في تحالف حفر الباطن )، أو التلويح بإفساد هذه اللعبة أو تلك (بسط السيطرة علي لبنان، والتلويح بورقة حزب الله بصفة خاصة، واحتضان جبهة الرفض الفلسطينية، وتحويل القضايا الكردية إلي ورقة مقايضة وضغط علي تركيا والعراق عن طريق رعاية عبد الله أوجلان وحزب العمال الكردستاني، أو دعم جلال الطالباني، أو تطويع بعض التنظيمات السياسية الكردية في منطقة الجزيرة...).

وبالطبع، كان من البديهي أن تدخل في هذا المخطط رغبة حافظ الأسد الجامحة في استرداد الجولان المحتلّ، خصوصاً وأنه هو الذي كان وزير الدفاع حين سقطت الهضبة تحت الإحتلال الإسرائيلي في هزيمة 1967، وكان رئيس الجمهورية حين خسرت سورية المزيد من الأراضي والهضاب والتلال الإستراتيجية في حرب تشرين 1973. وطيلة ثلاثة عقود من حكم الأسد، عرف خطاب السلطة الكثير من المصطلحات القوموية المتنافرة المتضاربة الجوفاء الزائفة، مثل فلسطين قبل الجولان ، و التوازن الإستراتيجي ، و السلام العادل الشامل ؛ ولكنه أيضاً شهد اتضاح المقولات وانكشاف الشروط وتحرّر اللغة من المحرّمات، وذلك منذ أن نطق حافظ الأسد بـ كلمة السحر ، علي حدّ تعبير المعلّق الإسرائيلي زئيف شيف، في لقائيه مع الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون (جنيف ودمشق) وأعلن أنّ السلام خيار سورية الإستراتيجي، ولا رجعة عنه.

والحال أننا عند هذا التطوّر تحديداً، أي اعتزام الأسد توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل لتجنيب وريثه الشابّ غير المجرّب سلسلة ويلات ومشكلات ومآزق جدّية نلمس اليوم الكثير منها، نقف علي بعض خصائص الحال الشكسبيرية التي يعاني منها وزير الخارجية فاروق الشرع: أنه كان ينفّذ، بالحرف تقريباً، وبالمسطرة والفرجال، توجيهات سيّده حافظ الأسد منذ 1991 ومؤتمر مدريد، وصولاً إلي خطابه الشهير في البيت الأبيض في كانون الأول (ديسمبر) 1999، إلي جانب كلينتون وإيهود باراك، من جهة أولي؛ وأنه اليوم، من جهة ثانية، يواجه تهمة التشدّد ، وتخريب السياسة الخارجية السورية، وبالتسبّب في إصدار مجلس الأمن الدولي القرار 1559، وإجبار النظام علي سحب قوّاته من لبنان... ومَن الذي يتهمه؟ الرفيق عبد الحليم خدّام، دون سواه!

ونتذكّر، لإنصاف السجلّ التاريخي في أقلّ تقدير، أنّ خطبة الشرع في حديقة البيت الأبيض كانت بالفعل متشددة ، لأنها إنما كانت معدّة لكي تصل إلي الشارع السوري أوّلاً ثم إلي الشارع العربي العريض ثانياً. وكان مطلوباً أن تعزف نغم التصلّب المطلوب ــ إعلامياً فقط، وأساساً ــ قبل أن يتوجّه الشرع إلي قاعة المفاوضات البعيدة عن الأضواء، حيث بات التصلّب بضاعة قديمة مسحوبة من التداول... بالتراضي، وباتفاق الأطراف.
وتلك الخطبة المتشددة لم تكن تسعي إلي ذرّ الرماد في العيون فحسب، بل أتي صاحبها يقول ببساطة: نحن ضحيّة العدوان، مثلما أنّ الوحدة العربية ضحيّة المشروع الصهيوني، ولكننا نجيء للتفاوض علي سلام سياسي وعسكري واقتصادي وثقافي وسياحي يعبّد الطريق أمام حوار الحضارات و التنافس الشريف في مختلف الميادين ، ويسمح بفتح آفاق جديدة تماماً للعلاقات بين شعوب المنطقة .

وإذا كانت الخطبة قد ذكّرت بجملة حقائق تاريخية لا مراء فيها (حول العدوان الإسرائيلي علي العرب بصفة خاصّة، وحول حقوق نصف مليون نازح سوري هُجّروا من ديارهم في الجولان المحتل)، فإنّ التذكير ذاك كان كلمة حقّ يُراد بها الباطل، والباطل التاريخي بصفة خاصّة: إذا وافقت الدولة العبرية علي عقد اتفاقية سلام مع سورية، فإنّ الصراع العربي ـ الإسرائيلي سوف ينقلب إلي نزاع حدود؛ أمّا إذا تعثّر عقد تلك الإتفاقية، فإنّ النزاع سوف يرتدّ من جديد إلي صراع وجود!

ولكن حتي في ذلك المستوي من التشدّد كنّا بعيدين تماماً عن فاروق الشرع ـ طبعة مؤتمر مدريد، حين واجه الرجل تلميحات رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق شامير إلي الإرهاب السوري بإخراج الملصق الذي يحمل صورة شامير الإرهابي المطلوب من العدالة البريطانية أيّام الإنتداب، بتهمة اغتيال وسيط السلام السويدي الكونت برنادوت. آنذاك، في مدريد، كان الشرع علي حقّ؛ وفي عام 1999 كانت استعادته للتاريخ مشروعة تماماً، دون أن يساور الكثيرين الوهم أنّ تلك الإستعادة تجري أمام عدسات التلفزة وحدها، ولن تجري بأية حال في قاعات التفاوض المغلقة!

وإنصاف السجلّ التاريخي يقتضي أيضاً أن نتذكّر كيف كانت عدسات العالم بأسره تتلهّف علي المصافحة التاريخية بين إيهود باراك وفاروق الشرع، فخابت آمالها. ثمّ يقتضي أيضاً أن نسأل (حتي تتضح طبيعة الملابسات التي حالت دون المصافحة، وما إذا كان الشرع قد رفضها بقرار شخصي أم بتوجيه من سيّده حافظ الأسد): أيّهما كان أعمق دلالة وأشدّ خطورة: غياب المصافحة، أم القرار الخبيث والوقح الذي اتخذه مسؤولو البروتوكول في البيت الأبيض، حين أجبروا العلم السوري علي عناق نجمة داود، بدل التقليد المتّبع الذي يجعل العلم الأمريكي وسيطاً بين العلَمين... حتي إشعار آخر علي الأقلّ؟
الجوهري في الأمر أنّ الشرع، الغارق حتي أذنيه في ذلك المشهد التراجيدي الشكسبيري بامتياز، كان ــ إلي جانب التفاصيل العسكرية، وخرائط الإنسحاب، والمياه، ومحطات الإنذار المبكّر، و تأجير منشآت الجولان السياحية 99 سنة... ــ مسقوفاً بـ مباديء سلام سرّبتها الدولة العبرية في مقال لافت نشرته هآرتز آنذاك، بتوقيع أري شافيت، بينها مثلاً:

1 ـ إنّ اتفاقية سلام سورية ـ إسرائيلية ينبغي أن تكون، أيضاً، اتفاقية سلام بين القومية العربية العلمانية وإسرائيل، تعبّر فيها أطراف هذه القومية العلمانية (وحزب البعث تحديداً) عن اعتراف كامل ومطلق بحقّ الدولة العبرية في الوجود كدولة يهودية ذات حدود وسيادة، مرّة وإلي الأبد. وأوضح ان هذا الإعتراف لن يكون لفظياً وإعلامياً فقط، بل تربوياً أيضاً: في المناهج الحزبية مثل المناهج المدرسية.

2 ـ إنّ اتفاقية سورية ـ إسرائيلية ينبغي أن تنصّ، بوضوح تامّ، علي أنّ الطرف السوري لن تكون له بعد إبرام الإتفاقية أيّ مطالب أخري، حدودية أو تاريخية أو عقائدية. وينبغي أن يكون النصّ واضحاً لا لبس فيه، وأن تكون لغته خالية تماماً من عناصر الغموض التي قد تترك للأجيال القادمة فرصة التأويل وإعادة التأويل.

3 ـ ينبغي أن تنصّ الإتفاقية علي بند يقول صراحة إنه لا تدخّل لطرف في الشؤون الداخلية للطرف الآخر: طبيعة النظام القائم، والشخصية الوطنية، والعلاقة مع الأقليّات الوطنية . وللوهلة الأولي تبدو هذه الفقرة غريبة بعض الشيء، فما العلاقة بين السلام وإدارة الدولة المسالمة للعلاقة مع أقلياتها؟ وإذا كنّا نستطيع تخيّل علاقة الشعب السوري التاريخية بأقليّات الدولة العبرية (وتحديداً بالفلسطينيين علي اختلاف عقائدهم)، فما العلاقة بين الدولة العبرية و الأقليات الوطنية في سورية؟

وبالطبع، لا حاجة إلي التذكير بأنّ الشرع لم يكن مهندس الإصرار علي التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود، وهو أمّ الأسباب التي استولدت القرار 1995، وليس من المبالغة القول إنه لم يشارك في اتخاذه أصلاً، بالنظر إلي أنّ بشار الأسد هو المعنيّ بالملفّ اللبناني منذ العم 1998. وإذا كان، مع ذلك، يتحمّل مسؤولية مباشرة عن كلّ تفصيل في السياسة الخارجية السورية، باعتباره وزير الخارجية و الحكيم الوحيد تقريباً في سلك الحرس القديم ومساعدي حافظ الأسد، فإنه في الآن ذاته لا يشبه الغالبية الساحقة من رجالات الفساد والمافيا والنهب، ولا يشبه الرفيق عبد الحليم خدّام تحديداً: إبنه لا يملك وكالة هنا أو شركة هناك كما هي حال رامي وجمال ومجد وفراس وعلاء، وزوجته ما تزال تعمل مدرّسة، وبيته في دمشق ما يزال يدهشنا حول معجزة وجود مسؤول سوري رفيع... غير مافيوزي!