الإتحاد: الثلاثاء: 12 . 07 . 2005


سيدور الكلام في هذا المقال حول السؤال التالي: إلى أي حقل من حقول المعرفة ينتمي خطاب العولمة والهوية؟ هل ينتميان إلى العلم أم إلى الإيديولوجيا؟
وقبل الخوض في الموضوع لابد من تحديد ما نقصده هنا بكل من العلم والإيديولوجيا؟ لنبادر إلى القول إننا لا نقصد العلم كجملة معارف ولا
الإيديولوجيا كجملة آراء، وإنما نقصد أولا وأخيراً منهج كل منهما في بناء عالمه المعرفي.
يقوم البحث العلمي على مناهج متعددة. والغالب أن يرجع تعددها إلى اختلاف موضوع البحث، منهج البحث في الرياضيات غيره في العلوم الطبيعية, وغيره في العلوم الإنسانية… وكذلك الشأن في الخطاب الإيديولوجي فهو بطبيعته خطاب متعدد بتعدد الأغراض التي يريد إقرارها أو خدمتها، وهي أكثر من أن تحصى. ومن أجل تجنب الخوض في مشاكل وإشكاليات جديدة، لا يتسع لها المقال، سنعمد إلى المقارنة بين الحقيقة العلمية والحقيقة الإيديولوجية (بدل المقارنة بين البحث العلمي والخطاب الإيديولوجي). وهذا انتقال مبرر ومقبول، باعتبار أن غاية البحث العلمي هي الوصول إلى الحقيقة العلمية، كما أن الهدف الذي يرمي إليه الخطاب الإيديولوجي هو إثبات ما يريد إثباته كحقيقة.
الحقيقة العلمية قوامها دعامتان: الموضوعية وإمكانية التحقق. المقصود بالموضوعية هو التعامل مع موضوع البحث كما هو، أي في استقلال عن آرائنا وعواطفنا، وذلك إلى الدرجة التي يصبح معها بالإمكان الاتفاق بين الباحثين على ما هو إياه ذلك الموضوع. فإذا قام اتفاق بيننا على أن هذا الشيء الذي أمامنا هو الشيء الفلاني وليس غيره، هو قطعة خبز وليس حجراً مثلا، قلنا إن علاقتنا المعرفية بهذا الموضوع علاقة موضوعية. والسؤال الآن هو: هل يمكن أن تقوم بيننا علاقة معرفية تربطنا جميعاً بكل من العولمة ومسألة الهوية، من جنس العلاقة التي تربطنا بكل من قطعة الخبز والحجر مثلا؟
هذا سؤال يطرحه البحث العلمي، أما الخطاب الإيديولوجي فلا يتحمله! والهوية والعولمة لا تتحملان هذا السؤال، لأن الكلام في كل منهما هو أساسا خطاب!
والخطاب رسالة من ذات إلى أخرى تنقل "حقيقة" يطلب من الذات المتلقية, ليس فقط أن تسلم بها, بل أيضاً أن تعمل بها. وإذن فالخطاب الإيديولوجي في موضوع "العولمة ومسألة الهوية" خطاب ينقل إلى المتلقي وجهة نظر يعتبرها صاحبها صحيحة ويطلب من المتلقي أن يعمل بها. يمكن أن يقول مثلا: "يجب أن نأخذ بالعولمة وننخرط فيها ونعمل في إطارها إذا نحن أردنا أن نعيش في المستقبل". وقد يضيف: "أما الهوية فهي تنتمي إلى الماضي". وقد يقول آخر: "يجب أن نقف في وجه العولمة لأنها تنطوي على غزو يمارسه الآخر علينا". وقد يضيف: "وهو غزو يتجاوز مستوى السلع والاقتصاد لأنه يستهدف الثقافة وبالتالي الهوية والكيان".

واضح أن هاتين الوجهتين من النظر تضعاننا أمام إشكال وليس فقط إزاء مشكلة. وما يجعلهما تعبران عن إشكالية أن ما تقررانه ليس من قبيل هذا أبيض وهذا أسود. هما تعبران عن رأيين مختلفين متعارضين فعلا، غير أنك إذا أخذت بأحدهما لا ترتاح راحة كاملة، بل يبقى الثاني يشوش عليك رؤيتك ويجرك إلى بحر من الشكوك الغامضة فتعيش حالة من التوتر الفكري. إن الأمر يبدو وكأن هذين الرأيين المتناقضين، على طول الخط، صحيحان معاً في وقت واحد. ومن هنا كان التوتر الذي ينجم عنهما من نوع التوتر الذي يبعثه في النفس الجمع بين النقيضين.

لقد تكرر الحديث في السنوات الأخيرة عن ضرورة "ترشيد" العولمة لتصبح نشاطاً تجارياً عالمياً يحترم مصالح الدول والخصوصيات الإقليمية والمحلية، الشيء الذي يعني نزع طابع الهيمنة الإمبريالية والليبرالية المتوحشة عن العولمة كما عرفتها السنون الأخيرة.

هذا الجانب لا يهمنا هنا. فالعولمة كنشاط اقتصادي "خالص" ليست من الظواهر التي تصطدم بمسألة الهوية. هذا من حيث المبدأ. ولكن هل هناك في عصرنا نشاط اقتصادي "خالص"؟ ثم أين تبتدئ "مسألة الهوية" وأين تنتهي؟

هذان السؤالان هما من بين الأسئلة التي تجعل من العلاقة بين "العولمة" و"مسألة الهوية" علاقة إشكالية بالمعنى الذي حددناه في المقال السابق. ذلك لأنه ما دمنا لا نستطيع أن نحدد بدقة حدود ظاهرة العولمة، حدودها الاقتصادية والثقافية والإعلامية... إلخ، ولا أن نرسم لـ"مسألة الهوية" إطاراً محدداً لا تتعداه، فإنه سيكون من الصعب وضع منحنى أو منحنيات للعلاقة التي يمكن أن تقوم بينهما. كل شيء ممكن في مثل هذه الحالة. وبالتالي فنحن لا نستطيع الوصول، بصدد العلاقة بين العولمة والهوية، إلى نتيجة نحس معها فعلا بالاستقرار الفكري، وإن حصل شيء من هذا فبسبب غفلة، سرعان ما تنقشع عن توتر أكبر.

لقد عرف الفكر العربي الحديث إشكالية مماثلة لم يهتدِ بعد إلى حل بشأنها يمنحه ما هو في حاجة إليه من الاستقرار الفكري. هذه الإشكالية هي ما كان وما يزال يدعى بـ"إشكالية الأصالة والمعاصرة". ولقائل أن يقول: أليست إشكالية "العولمة ومسألة الهوية" سوى مظهر من مظاهرها، مظهرها الجديد الذي فرضه التطور علينا؟

والجواب: هناك فعلا تشابه بين الإشكاليتين، ولكن في الظاهر فقط، أما المضمون فمختلف. والألفاظ نفسها، أعني صيغتها الصرفية، تشي بهذا الاختلاف: فـ"المعاصرة" مفاعلة، وهي صيغة تدل على المشاركة. المعاصرة صيغة تفيد أننا نحن الذين نطلب المعاصرة ونقوم بها لأنفسنا، أي نسعى إلى أن نرتفع إلى مستوى عصرنا في مجال الفكر والعلم والصناعة. أما العولمة فصيغتها الصرفية فوعلة تفيد جعل الشيء على هيئة معينة: فقولبة الشيء معناها جعله في قالب. كما أن عولمته تعني جعله عالمياً. وهذه الفروق اللغوية ليست خاصة باللغة العربية بل نلحظها في كثير من اللغات الأجنبية. فـ"العولمة" ترجمة لكلمة globalisation التي تفيد في معناها اللغوي التعميم: تعميم الشيء وجعله شاملا. وإذا لاحظنا أن كلمة globe تعني الكرة وتستعمل علماً لتدل بالتحديد على الكرة الأرضية استطعنا أن نربط العولمة بهدفها الاستراتيجي أعني تعميم نمط من الحياة على الكرة الأرضية كلها. ومن هنا الاسم المرادف لـ"العولمة" في الخطاب العولمي المعاصر، أعني لفظ planétarisation وهو ما يترجمه بعضهم بـ"الكوكبية". والمقصود جعل كوكب الأرض كله مسرحاً لنمط معين من التعامل المالي والتجاري، وبالتالي الحضاري، هو النمط الأميركي.

هذا من جهة ومن جهة أخرى لابد من ملاحظة أننا لسنا نحن الذين نقوم بالعولمة والتعميم، بل العولمة عملية تتم خارج إرادتنا، على العكس تماماً مما تدل عليه "المعاصرة" التي نفترض فيها أننا نحن الذين نقوم بها بإرادتنا أو على الأقل نطمح إليها. وقد نلمس هذا الفرق بوضوح أكبر لو أننا انتبهنا إلى الطريقة التي نعبر بها عن الموقف الإيجابي منهما، موقف القبول. ذلك أننا نقول: نحن ننشد المعاصرة ولا نقول "ننشد العولمة"، بل نقول: "ننخرط" في العولمة أو "نستعد في الدخول" في عصر العولمة.

بعبارة قصيرة، في "المعاصرة" نتعامل مع أنفسنا كذات، أما في "العولمة" فنشعر بأننا موضوع لها. قد يكون هذا مجرد فرق سيكولوجي. ليكن. فالموقف السيكولوجي له دور كبير عندما يتعلق الأمر بالهوية. الهوية مسألة وعي، فهي من ميدان السيكولوجيا. ولذلك سيكون رد الفعل من قبيل الاستفهام الإنكاري التالي: وهل من يتعامل مع الظاهرة نفسها كذات فاعلة كمن يتعامل معها كموضوع منفعل؟

ثم إن التقابل أو التعارض بين "الأصالة والمعاصرة" ليس من جنس التقابل والتعارض بين "العولمة والهوية". ذلك أن "المعاصرة" لا تهدد الهوية إلى درجة إلغائها ونفيها، بل بالعكس يفترض فيها أن تعمل على إغنائها وتجديدها. والأصالة، بعد، ليست جزءا من الهوية، بل هي وصف يمكن أن توصف به. أما "العولمة" فبما أنها تعميم وقولبة فهي تهدد الأصالة وبالتالي الهوية، أو على الأقل نوعا من الهوية ونوعا من الأصالة.