و"طائف اقتصادي" سيعفيهم من جرائم السرقة والفساد؟


مع شهر آب 2005 يكون لبنان قد أكمل عاماً من مسلسل التخبط السياسي والأمني من عنف يلحق به وباقتصاده واستقراره السياسي والاجتماعي أكبر الأذى عبر اغتيالات ومحاولات اغتيال وتفجيرات جوّالة، الى اقفال الحدود الشرقية والشمالية بوجه البضائع اللبنانية الى العنف المتجدد على الحدود الجنوبية وصولاً الى تراجع النمو وتدهور المؤشرات الاقتصادية كافة.

مسؤولية الطبقة الفاسدة عن العنف

ويبدو أنّ العنف في لبنان يتجه في منحى تصاعدي حيث يأتي كل شهر بأحداث أسوأ من الشهر الذي سبقه. فلقد اكتفى القتلة في شهر حزيران باغتيال سمير قصير وجورج حاوي. ولم يكد شهر تموز يطل حتى وقعت جرائم سياسية بحق عناصر من القوات اللبنانية قام بها مناصرو الوزير السابق سليمان فرنجية وجرائم بحق عناصر من مناصري الوزير السابق طلال أرسلان قام بها مناصرو النائب وليد جنبلاط، فيما قام عناصر من حركة أمل باطلاق النار ابتهاجاً فأصابوا وقتلوا عدداً من المواطنين، وجرت محاولة اغتيال بحق الوزير الياس المرّ أسفرت عن وقوع ضحايا. وفي تموز أيضاً أقفلت سورية حدودها مع لبنان عقاباً كما فعلت في الماضي، وتقلص النشاط الاقتصادي وتضاءل عدد السياح وتصاعد التوتر على الحدود الجنوبية بين حزب الله واسرائيل، وتواصلت عمليات شد الحبال حول حصص تركيب مجلس الوزراء فاستحق فؤاد السنيورة لقب "أيوب".

كل هذا العنف والضغط السياسي والاقتصادي أظهر أن الأمور اتجهت الى التأزم وليس الى انحسار .

ونعتبر أن كل من يساهم في مسلسل العنف والضغط السياسي في لبنان انما لا يريد أن يرحم الناس والبلاد ويعمل واعياً على ضرب الاقتصاد وشلّ المجتمع. واذا كانت قوى الأمن تجهل هوية مرتكبي الاغتيالات السياسية والتفجيرات، فالكل يعرف الجهات السياسية من أحزاب وحركات لها أعضاء في البرلمان وعادة ما تستولي على حقائب وزارية، والتي يحمل عناصرها السلاح علناً في لبنان ويعيدون أجواء حرب يحاول اللبنانيون نسيانها.

أسئلة المواطن الصابر

في ظل هذه الأجواء هناك أسئلة وجيهة يحق للمواطن الصابر منذ 30 عاماً أن يسألها:

1. لماذا هناك مسلحون خارج سلطة الدولة اللبنانية؟ ولماذا يحمل عناصر حركة أمل والاشتراكي والمردة وغيرهم أسلحة ويطلقون النار على المواطنين بحرية؟ ولماذا المخيمات الفلسطينية مدججة بالسلاح وأين هي الخطة لإزالة هذه الأسلحة ومتى؟ ولماذا يسمح للتنظيمات الأصولية المتطرفة بإقامة نشاطات ورفع يافطات وشعارات عنصرية ومذهبية تثير ذعر المواطن؟

2. لماذا يسمح لبنان لسورية ببهدلته اقتصادياً وأين السلطة اللبنانية لا تستعمل نفوذها مع حكام دمشق بأن ارفعوا أيديكم عن لبنان (على افتراض أن للرئيسين اميل لحود ونبيه بري علاقات تاريخية مميزة مع سورية) وما هو منطق وليد المعلم في حديثه عن "قلّة الوفا" في حين أن المطلوب أن تعتذر سورية عن أخطاء تراكمت وذكرها الرئيس بشار الأسد في 5 آذار الماضي؟ ألم يكف سورية ما جنته المافيا المالية السورية اللبنانية منذ العام 1990؟

3. لماذا يختار حزب الله أسوأ أيام لبنان اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ليقوم بعملياته ولماذا لا يشرح للمواطن معنى أن يكون هذا الأمر شأناً داخلياً حتى يعرف هذا المواطن سبب التضحيات؟ ولماذا لا يستعمل رصيد "الوفاء لسورية" لرفع الحصار الذي يمارسه الأشقاء على فقراء لبنان؟

4. متى تقوم دولة الرعاية والعدالة وحقوق الانسان، دولة تخدم فيها الحكومة الشعب وليس العكس؟

نعتقد أنه لا يمكن الحصول على أجوبة لهذه الأسئلة في الوقت الحاضر طالما أن حكم الميليشيات مستمر. وهذه الميليشيات حكمت لبنان أيام الحرب السوداء التي بدأت عام 1975 وحكمته أيام الوصاية منذ العام 1990 وهي تحاول اليوم التوصل الى صيغة جديدة تبشـّر بأيام سود جديدة قادمة على لبنان، حيث كل طائفة بزعمائها هي دولة قائمة تريد حصتها من المال العام وتهيمن على المواطنين.

كيف استلمت عصابات الحرب السلطة؟

سمح اتفاق الطائف بتوزيع الدولة حصصاً على أمراء الحرب الذين دمّروا لبنان، وهناك محاولات تجرى اليوم لمسح جرائم نهب الدولة وأموال الشعب تحت شعار "طائف اقتصادي". وعلى أساس أن الذئب لا يأكل الذئب فأمراء الحرب القدامى والجدد يتصرفون على مبدأ "سامحني بسامحك" و"ما تفتح ملفي ما بفتح ملفك".

أما الفقر والحرمان والظلم واختفاء حقوق الانسان وتخلف الاقتصاد عن اللحاق بركب الحضارة والتطور العلمي والتكنولوجي فهي أمور تركوها لاسرائيل حتى باتت في عصر الفضاء وبقي لبنان في غياهب التعصب ومرض العصاب الجماعي.

لقد كوفئ أمراء الحرب الذين دمّروا لبنان خلال الفترة 1975 -1990 بتسليمهم مقاليد السلطة. فهم قتلوا 150 ألف شخص وأحدثوا خسائر بـ25 مليار دولار ومارسوا كل المخالفات من التجارة بالمخدرات والهيمنة على مقومات الدولة من مرافق عامة ومرافئ واستباحة تدمير البيئة عبر استيراد مواد سامة وصناعية ونفايات صلبة أهلكت الثروة المائية الباطنية. كما مارست الميليشيات أبشع الجرائم التي صدمت البشرية من مجازر صبرا وشاتيلا والدامور وكفرمتى وبمريم والكرنتينا والمسلخ وتل الزعتر والقاع وغيرها واغتالت الشخصيات السياسية والفكرية من حسين مروّة ورينيه معوّض وحسن خالد وبشير الجميل وسليم اللوزي وعبد الوهاب الكيالي وموسى شعيب ومهدي عامل وكمال جنبلاط وصبحي الصالح وداني شمعون ورشيد كرامي، وتعاملت مع دول مختلفة في الشرق والغرب وقبضت المال وأخذت السلاح والذخيرة والمعدات اللوجستية من اسرائيل وسورية والعراق وايران والسعودية وليبيا وغيرها.

ثم عمل أمراء الحرب على تمزيق الوطن طائفياً ومناطقياً فتحوّل لبنان الى دويلات طائفية بعضها تحت سيطرة ميليشيات الشيعة وبعضها تحت سيطرة ميليشيا الدروز وبعضها تحت سيطرة ميليشيات المسيحيين، وشريط حدودي تحتله اسرائيل, ومخيمات فلسطينية معسكرة قرب المدن. ولم ينته الأمر عند هذا الحد بل وقعت حروب دموية داخل كل منطقة أسفرت عن مقتل الآلاف وتخريب الاقتصاد. وقامت حواجز الخوات والضرائب الحربية ومصادرة الأملاك والسيارات والأبنية وارهاب المواطنين.

...وكيف تعاونوا على نهب البلاد؟

واليوم يدور كلام عن اعفاء أمراء الحرب المتحالفين الذين حكموا لبنان منذ العام 1990 من 15 سنة من الاهدار والسرقة والفساد, على طريقة عفى الله عما مضى. فيصل اللبنانيون الى "طائف اقتصادي" يسمح باستمرار واقع لبنان المرير تحت هيمنة الطبقة الفاسدة التي تتلون بألف لون وتتحدث نفاقاً عن الاصلاح وعن "لبنان الجديد".

تلك الطبقة يهدد أعضاؤها بالعنف كلما سارت الأمور عكس ما يشتهونه فيهدد أمراء الحرب بـ"حرب أهلية" اذا لم يحصل ما يريدونه، وعن "انتفاضة 6 شباط جديدة". وكل مدة يعود قبضايات المدن و"زعران الأزقة" الى حمل السلاح للأمن الذاتي. ولا حرج، فالدولة تم تقاسمها كقالب حلوى والمناطق تحت واقع التجزئة الفعلية والطائفية في أحسن أيامها منذ ظهور دولة لبنان الكبير عام 1920.

لقد سرق أمراء الحرب وأصدقاؤهم الجدد منذ العام 1990 عشرات مليارات الدولارات من الشعب اللبناني وأنفقوا 75 ملياراً لم يظهر منها فعلياً في البنية التحتية سوى بضعة مليارات وجعلوا من مؤسسات الدولة "مغارات علي بابا" (بعدما كانت قصص ألف ليلة وليلة تتحدث عن مغارة واحدة للصوص، أصبح لكل أمير مغارة أو صندوق).

ثم ركب أمراء الحرب موجة ثورة المجتمع المدني في 14 شباط 2005 وادعوا أنهم "معارضة بوجه موالاة"، في حين انضم أمراء حرب آخرون الى موالاة "حريصة على الدولة وعلى العلاقات المميزة مع سورية والوفاء لدمشق". ثم انقلب هؤلاء مجدداً عند الانتخابات في أيار 2005 فظهرت تحالفات قديمة بعدما كانوا "عين تينة" و"بريستول".

ومنذ العام 1990 قالوا ان الباب مفتوح لأحزاب علمانية ومجتمع مدني ولكنهم في كل أعمالهم سعوا الى تحجيم القوى التجديدية في المجتمع.

لقد كنا في بيروت عندما عرض تلفزيون الجديد في الأسبوع الأول من حزيران هجوم عناصر حزبية على مكاتب نجاح واكيم قرب مستديرة الكولا وعملوا فيها تهشيماً وتخريباً واعتدوا على من تواجد فيها ولم يحرك أحد ساكناً.

وشاهدنا كيف اعتدى المسلحون على الجيش اللبناني وقوى الأمن في الضنية وبعلبك والهرمل ومجدل عنجر وها هي الميليشيات الحاكمة بأمرها تسعى الى اطلاق هؤلاء من السجون. مسكين الجندي والضابط اللبناني كم دمه سهل!

محاكمة الفساد يبدأ بأربعة كبار

ندرك أن الكوارث والمصائب كبرى وأن محاربة الفساد لا يمكن أن تكون حرباً انتقامية تجلب آلاف الناس الى المحاكم، ما يعطـّل كل شيء ويمنع لبنان من التقدم في معالجة الأزمات الطارئة. ولذلك يستحسن جلب رؤوس الفساد من الزعماء السياسيين وأمراء الحرب لضرب المثل فيهم وجعلهم درساً للفاسدين. وهذا يسمح بالسير قدماً في الاصلاح والتنمية فلا يكون "طائف اقتصادي" يعفي عن الجرائم الاقتصادية كما عفى طائف 1989 السياسي عن جرائم الحرب. إذ لا بد أن تولد الرعاية والشفافية من هذا المنطلق.