الخميس: 25 . 08 . 2005

«عندما تنسحب القوات البريطانيّة من جنوب العراق، ستترك وراءها جمهوريّة البصرة الإسلاميّة: وهي دويلة اكثر تشدداً اسلامياً من أي مكان آخر في البلاد. وهي نتيجة بشعة لحرب مثيرة للجدل وعامين من إعادة بناء مؤلمة».

هذه السطور القليلة هي المقدّمة المثيرة للجدل لمقال نشرته في صحيفة «تايمز» في 11 آب (أغسطس) الجاري كاتبة الشؤون الخارجية اللامعة برونوين مادوكس.

علت أصوات كثيرة في بريطانيا قبل حرب العراق وبعدها، صدرت عن ملمَين بشؤون الشرق الأوسط، تتوقّع أنّ يكون إبقاء العراق موحّداً في المستقبل أمراً صعباً للغاية إن لم يكن مستحيلاً. وفي نيسان (أبريل) 2004، بعث 52سفيراً ومفوضاً سامياً سابقين برسالة قوية إلى رئيس الوزراء توني بلير يؤكدون فيها انه إذا لم يبذل جهداً فعلياً للتأثير في سياسة الحكومة الأميركيّة فلن يكون لديه مسوغ «لدعم سياسات محكوم عليها بالفشل» في العراق (وبخصوص المسألة العربية -الاسرائيلية).

ونشرت الصحف البريطانية خلال الايام الماضية مقالات عدة تشير الى سقوط جنوب العراق في ايدي رجال الدين المتطرّفين، واستندت في ذلك الى مقتل الصحافي الأميركي ستيفن فنسنت الذي اختطف في البصرة. وقيل انّ رجال الدين المحلّيين اعترضوا على أنّ مترجمة ترافقه أينما ذهب. وكان فنسنت كتب مقالاً أكد فيه ان السلطة البريطانيّة في الجنوب تقف غالباً مكتوفة اليدين أمام ما يجري، وانتقد هذه السلطة على «تغاضيها عن الفوضى المتزايدة». وأعلن أنّه اكتشف أنّ رجال الشرطة في البصرة يخضعون لنفوذ رجال الدين المحلّيين بدل أن يتلقّوا أوامرهم من القيادة الهرمية للشرطة التي تقود في نهاية المطاف إلى وزارة الداخلية في بغداد».

وكان لافتاً ضآلة التغطية لعمل السلطة البريطانيّة والجنود السبعة آلاف في جنوب العراق، لكن ذلك بلا شك ناجم عن خطورة ارسال صحافي الى هناك وتكاليفه المرتفعة. وللبريطانيين قنصل عام في البصرة هو ستيوارت أينيز الذي تولى منصبه منذ بضعة أشهر. وقد عين في عهد السفير البريطاني الجديد في بغداد وليام باتي الذي كان سفيراً في الخرطوم. وتقضي مهمّة كلّ من باتي وأينيز باقامة حوار جديّ مع السياسيين والمسؤولين ودعم العمليّة السياسيّة بكلّ الطرق.

وتشكّل القوات البريطانيّة جزءاً من القوّات المتعددة الجنسية في جنوب شرقي العراق البالغ عددها عشرة آلاف جندي والخاضعة لإمرة الميجور جنرال البريطاني جون ريلاي. والوحدة البريطانيّة تنتشر على رقعة جغرافية كبيرة جداً وتعتمد على الاحتياطيين الى حد كبير. ومع ذلك فهي قوة مدربة ومجهزة جيداً ومؤثرة.

ويثق شيعة الجنوب، كونهم يشكلون الغالبية السكانية، بأنّ الامور ستسير على هواهم. ولم يكن هناك أحد أشد فرحاً منهم بسقوط صدّام حسين. وعملياً، يتم تشجيع السكان المحليين على إدارة شؤونهم بأنفسهم. وهذا أدّى إلى جنوب أقلّ تسامحاً، فازداد عدد النساء المحجبات وحظر بيع المشروبات الكحولية. وتتصدر صور رجال الدين الشعبيين مراكز الشرطة المحلية - من دون ان يكون لذلك بالضرورة دلالة سياسية - ولا تشعر السلطة بأنّ من واجبها ازالتها، ولن يكون ذلك ممكنا على كل حال. وتشعر السلطة بالقلق من النزاع بين الفصائل الشيعيّة، ويجري تدريب رجال الشرطة وتشجيعهم على ابقائها تحت السيطرة. لكن التقارير تفيد بان هذا لا يحصل دائما، وحتما فان قادة الشرطة سيحتارون بعد فترة إلى من يرفعون تقاريرهم.

والسلطة البريطانيّة على علم تام بتقارير الصحف البريطانية التي تشير الى ان عدد الجنود البريطانيين في العراق سيخفض. ومن المحتمل أن يتمّ نقل بعضهم الى أفغانستان حيث لبريطانيا التزام أوسع.

ووراء هذا الخفض مزاج شعبي جديد في بريطانيا بشأن التدخّل في العراق. ومع ان الكلام السياسي عن بقاء القوات البريطانية طالما تطلب الوضع العسكري والسياسي ذلك لا يزال يسمع، الا انه صار أقل اقناعاً. وتظهر استطلاعات الرأي وجود غالبية تطالب بانسحاب القوّات البريطانية من العراق في أسرع وقت ممكن، كما يعتقد معظم الذين شملتهم الاستطلاعات بأنّ التدخّل البريطاني في العراق كان خطأ.

ومع ان عمل القوّات البريطانيّة في البصرة يلقى مديحا بسبب تركيزه على استمالة القلوب والعقول وإعادة البناء، يعتقد الكثيرون في مجلس العموم أن معظم العراقيّين يعتبرون تلك القوات جزءاً من المشكلة على غرار نظرتهم الى القوّات الأميركية. ويبدو أنّ الأميركيين ما زالوا مصمّمين على ابقاء قواعدهم العسكريّة في العراق، لحماية اسرائيل والنفط. وأتوقّع أنه في غضون سنة ونصف السنة لن يبقى هناك جنود بريطانيون كثيرون يجوبون شوارع البصرة، إن لم يختفوا تماما.

كاتب وسياسي بريطاني وعنوان المقال في الأصل: "جنوب العراق".