مسعود ضاهر


في تحرك مفاجئ بعد طول غياب، أكد أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى، أنه حزم أمره من أجل بذل ldquo;كل ما بوسعه لتخفيف الاحتقان بين لبنان وسورياrdquo;. لكن أطراف النزاع في لبنان من الذين أدمنوا استدراج التدخل الخارجي في نزاعاتهم الداخلية قد توجسوا خيفة من هذه الحماسة غير المتوقعة لأمين عام الجامعة. فأدلوا بتصريحات نارية ضد ما وصفوه بأنه ldquo;صفقة غير متكافئة بين النظامين اللبناني والسوري على حساب دم الشهيد رفيق الحريريrdquo;.

رد أمين عام الجامعة على تلك التصريحات من خلال وسائل الإعلام، ورأى فيها مجرد نوايا مسبقة ناجمة عن ldquo;قراءات مضللةrdquo;. لكن من واجب الجامعة التدخل لتقريب وجهات النظر المتباعدة بين أعضائها حتى لا تترك الساحة اللبنانية عرضة لتدخلات قوى أجنبية لا تريد خيرا للشعبين اللبناني والسوري. فهناك دول إقليمية وعالمية تستخدم النزاعات المتجددة بين بعض القوى اللبنانية مع النظام السوري من أجل العبث بأمن لبنان وتأزيم علاقاته مع سوريا بحيث لا تعود وساطة الجامعة العربية تجدي نفعا، فينفتح باب تدويل الأزمة اللبنانية على مصراعيه.

أبدى أمين عام الجامعة دهشته لما تناقلته وسائل الإعلام اللبنانية من تصريحات وتعليقات حول المهمة التي انتدب نفسه من أجلها. وذلك يطرح عددا من التساؤلات المشروعة:

1 إن تحرك الأمين العام قد تأخر كثيرا في وقت كانت فيه الأوضاع الداخلية تزداد تأزما في لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وقد انتهت إلى خروج الجيش السوري وأجهزته الأمنية تحت وطأة الضغوط الخارجية، وفي طليعتها الأمريكية والفرنسية.

2 إن العلاقات اللبنانية السورية اتخذت منحى معاكسا تماما لما كانت عليه طوال الثلاثين سنة الماضية. فقد وصفت في السابق بأنها ldquo;علاقات مميزة بين شعب واحد في دولتينrdquo;. لكن اغتيال الرئيس الحريري، واتهام الأجهزة الأمنية السورية واللبنانية بذلك العمل الإجرامي كشف هزال تلك المقولة. فتحولت العلاقات المميزة إلى علاقات متوترة جدا، وتحول بعض أصدقاء الأمس إلى أعداء شرسين. وأصر بعض السياسيين اللبنانيين على تعليق الاتصالات مع النظام السوري حتى إظهار الحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري.

3 طالبت بعض القوى اللبنانية المنضوية تحت راية ldquo;تكتل 14 آذارrdquo; على السير في مخطط اللبننة بصورة متكاملة، لكي يظهر استقلالية كل من لبنان وسوريا كدولتين مستقلتين تماما. وذلك يتطلب إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بينهما، وترسيم حدود الدولتين بأقصى سرعة ممكنة، وحماية حدود لبنان لمنع تدخل القوى السورية في الشؤون اللبنانية، ومطالبة جميع القوى والأحزاب اللبنانية بإظهار لبنانيتها أولا قبل التغني بعلاقات الأخوة والصداقة مع أية دولة عربية أخرى، وبشكل خاص مع سوريا.

4 بالمقابل، اعتبرت القوى المناهضة لهذا التكتل أنه لا يعبر فعلا عن جميع القوى والتيارات السياسية في لبنان. فهناك قوى وأحزاب لبنانية متحالفة بصورة دائمة مع سوريا طالما أن ldquo;إسرائيلrdquo; ما تزال تصنف دولة معادية للعرب والمسلمين. فهي لم تطلق الأسرى المعتقلين في سجونها، وما زالت تغتال المناضلين الفلسطينيين أينما وجدوا. ولم توقع صلحا دائما وعادلا مع الفلسطينيين، ولم ترحل عن الأراضي العربية المحتلة وترجعها إلى أصحابها الشرعيين، خاصة في الجولان ومزارع شبعا. ولم تضع سلاحها النووي تحت رقابة منظمة الطاقة الدولية بحيث يتحول البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة سلام خالية تماما من أسلحة الدمار الشامل.

إن مواقف القوى اللبنانية المتصارعة ألقت بظلال كثيفة حول الأهداف المرتقبة لمبادرة أمين عام جامعة الدول العربية. فاعتبرها البعض بمثابة صفقة يراد لها التصالح بين النظامين اللبناني والسوري لكي تنتهي بطمس جريمة اغتيال الرئيس الحريري وما أعقبها من اغتيالات طاولت عددا من أبرز الرموز السياسية والإعلامية والثقافية في لبنان.

في هذا الإطار، بدت مبادرة الأمين العام شبه مستحيلة لأنها تحاول التقريب بين قوى لبنانية متباعدة جدا في التوجهات السياسية، والأهداف الآنية. ومنها ما يرى أن حالة الاحتقان بين لبنان وسوريا قابلة للاستمرار طويلا ما لم يتم الكشف عن مرتكبي جريمة اغتيال الحريري وباقي الجرائم. وهناك قيادات سياسية لبنانية تعيش حالة خوف دائم على حياتها وحياة أفراد عائلاتها، وهي ترفع سقف التصريحات اليومية إلى الحدود القصوى لكي تلفت انتباه الرأي العام اللبناني والعربي والدولي إلى مخاطر جرائم جديدة يجري التحضير لها في وقت قريب.

فالمسألة ليست فقط في ترسيم الحدود بين الدولتين وإقامة علاقات دبلوماسية بينهما، لكي تساهم جامعة الدول العربية في حلها، بل تطال أساسا أمن لبنان، دولة وقيادات سياسية، فأمن لبنان واستقراره، وحماية شعبه من مسلسل الإجرام المستمر تشكل المدخل الأساسي لحماية وحدته الداخلية، واستقلاله، وسيادته، وإقامة علاقات دبلوماسية طبيعية مع الدول الأخرى.

ويلاحظ أن تحرك جامعة الدول العربية جاء في أعقاب فشل مهمة ميليس الذي أنجز تقريرا رماديا لا يتهم فيه أحدا، مع أن تصريحاته إلى وسائل الإعلام تؤكد ضلوع النظام الأمني السوري واللبناني بجريمة الاغتيال. ومع أن مسار التحقيق الدولي في اغتيال الحريري بات شبه متوقف. فالقوى التي كانت تراهن على تقرير ميليس أصيبت بإحباط نسبي. إلا أنها لم تستسلم بل رفعت من وتيرة الاحتجاج ضد النظام السوري والداعين إلى التصالح معه. فأصيبت مبادرة جامعة الدول العربية بالإجهاض القاتل، ولم تنجح في تهدئة حالة الاحتقان الخطرة التي تؤسس لمزيد من التأزم في العلاقات اللبنانية السورية. وهو احتقان يمكن أن يترك مخاطر جدية على منطقة الشرق الأوسط المتفجرة أصلا بعد الحرب الأمريكية على العراق.

أخيرا، لقد سقطت مبادرة الأمين العام في الرمال اللبنانية المتحركة. وبعد أن كان أمينها العام يلام على غيابه عن ساحة الأزمات العربية، بات يعاب عليه العجز عن التدخل حتى بين أطراف نزاع داخلي في أي بلد عربي. فهل تعلمت جامعة العربية من منظمة الوحدة الافريقية، ومن منظمة الآسيان طرق التحرك في الوقت المناسب لإطلاق المبادرات الناجحة لاحتواء الأزمات العربية؟