د. إبراهيم عرفات
انضم المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر السيد محمد مهدي عاكف إلي الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد فأدلي بدلوه عن قصة المحرقة التي تعرض لها اليهود في أوروبا قبل أكثر من نصف قرن. الرئيس الإيراني كان شديد اللهجة فاتهم إسرائيل بالتلفيق التاريخي الواسع ونسج قصة خيالية عن عذاب اليهود واصفاً إياها بالدولة الجرثومة التي يجب أن تمحي من خريطة العالم أو أن يقتطع لها مساحة من أوروبا أو حتي ألاسكا لو أصر الغرب علي أن يكون هناك دولة بهذا الاسم. أما مرشد الإخوان فجاءت تصريحاته أخف حدة حملت علي الغرب لتعامله بقسوة مع كل من يقترب من قصة المحرقة محاولاً إعادة النظر فيها.
وبرغم عدم وجود ما يشير إلي أن موقف المرشد العام للإخوان تم بترتيب مسبق مع الموقف الإيراني، إلا أنه عضد باسم جماعة سنية معروفة رؤية شيعية دعت إلي تكوين قراءة إسلامية نقدية عن تاريخ المحرقة. والسؤال المطروح هنا يدور حول جدوي تلك القراءة. فما لنا ومحرقة اليهود هل في الحديث عنها مصلحة لقضايانا العربية والإسلامية.
والدافع لإثارة السؤال يعود إلي وعي بأن موضوعات التاريخ التي يجب أن نتحمس لها وندافع عنها تحتاج أن تنتقي بكثير من العقلانية بعيداً عن العاطفة والانفعال حتي لا نفتح من ملفات التاريخ ما لا يرتبط بهموم الأمة ولا يخدم مصالحها. وقد بات الانفعال العشوائي مع الماضي دون فرز وغربلة شائع، للأسف الشديد، في منطقتنا ما يدعو مؤرخينا الموقرين للتدخل لتعريف الناس بكيفية التعامل الواعي مع المادة التاريخية التي قد تتحول أحياناً إلي مادة قابلة للاشتعال. فالتاريخ بحر واسع يجب أن نوغل فيه برفق، وكتاب ضخم من الأوقع أن نبدأ بقراءة ما يخصنا فيه من صفحات قبل أن نتطوع بالتعليق علي ما يخص غيرنا منه، خاصةً وأن هناك ظلالا تمتد من التاريخ إلي السياسة هي التي تربط الأمس باليوم، وتوجب علي الناس عامةً والسياسيين خاصة الحديث عن قضايا الزمن القديم بعناية. فقبل إعادة فتح الملفات المحفوظة علينا أن نسأل أنفسنا ما إذا كان ذلك سيدرأ مفسدة أم يقدمها، وهل سيجلب مصلحة أم يعوقها.
وضمن هذا الإطار لا أري أن الاهتمام بمحرقة اليهود في أوروبا يُعبر عن توظيف مفيد للتاريخ في إدارة الصراع مع إسرائيل. فقضية المحرقة ليست قضيتنا، علاقة المنطقة العربية بها لا تختلف عن علاقتها بما تعرض له الأرمن مثلاً من إبادة علي يد العثمانيين في 1915 أو ما لقيته شعوب شرق آسيا من فظائع قام بها اليابانيون ما بين الحربين العالميتين، أو ما شهده التوتسي من مذابح علي يد الهوتو في رواندا عام 1994 وكلها أمثلة قد يدعو ما فيها من دراما إنسانية إلي الشفقة والتعاطف، ولكن يبقي الخوض فيها بالنسبة لنا أو تبني موقف معها أو ضدها أمرا لا ناقة لنا من ورائه ولا جمل.
والحديث عن المحرقة في منطقتنا علي وجه الخصوص إنما يُقدم خدمة مجانية لطرفي القصة في إسرائيل و أوروبا. فالإسرائيليون برغم انزعاجهم من أي رواية تخالف ما يطرحونه عن المحرقة ، إلا أنهم لا يضيعون فرصة الاستفادة منها فيرسخوا من خلالها التهمة التي يحبون قذف الآخرين بها وهي معادية للسامية. كما يوظفونها سبيلاً للإبقاء علي ذاكرتهم التاريخية يقظة ووسيلةً لكسب منافع سياسية واسعة. وقد حدث بالفعل عقب تصريحات الرئيس الإيراني عن المحرقة أن قامت إسرائيل بوضعها في أجواء الشد الواضحة بين طهران وعدد من العواصم الغربية بسبب الملف النووي الإيراني، ما سهل لها الحصول علي دعم دبلوماسي وسياسي هائلين من واشنطن والعواصم الأوروبية وأمين عام الأمم المتحدة لم يحصل الفلسطينيون ربما علي عشر مقداره بعد تصرفات عدوانية وليس تصريحات لفظية قامت بها إسرائيل تجاههم. وبدلاً من تفويت الفرصة علي إسرائيل، قدم التعليقان الإيراني ثم الإخواني عن المحرقة ذريعة لإسرائيل تبرر بها للعالم تصرفاتها.
أما الأوروبيون فما أحوجهم إلي متطوعين يحملون عنهم بالمجان بعض مخلفات التاريخ الأوروبي. متطوعون يشتتون بتصريحاتهم النارية انتباه اليهود والرأي العام الدولي بعيداً عن تاريخ أوروبا إلي السياسة في الشرق الأوسط، وينقلون الجدل من حصر أخطاء الأوروبيين في الماضي إلي رصد تصرفات وأقوال المسلمين في الحاضر. فأوروبا لا تمانع في تلقف أي عرض يأتيها من هنا أو هناك تستغله في معالجة الفجوة التاريخية بينها وبين اليهود، خاصةً لو أتاها من متبرع لا يُقدر ما للخوض في موضوع المحرقة من حساسية مفرطة لدي القارة العجوز. وكان ذلك هو الموقف الذي أفصحت عنه ألمانيا بالتحديد فور صدور تصريحات الرئيس الإيراني، حيث لم تضيع المستشارة الألمانية انجيلا ميركل الفرصة فأعلنت أن حديث الرئيس الإيراني غير مقبول بالمرة كما بعثت إلي رئيس الوزراء الإسرائيلي برسالة أكدت فيها أنها سوف تستهل عام 2006 بزيارة إلي إسرائيل تعبر بها عن عمق الصداقة بين بلديهما. وهكذا فعلت تلك التصريحات العنترية فعلتها. فالمحرقة التي تركت رواسب عميقة من الكراهية بين اليهود والألمان تحولت إلي دافع لتنسيق المواقف بينهم ضد من تطوع لمعالجة فصل لا يخصه من التاريخ الأوروبي.
ولأن السياسة لا تعرف التطوع وإنما البحث عن المصلحة، فمن الأولي لو كان العزم قد انعقد في منطقتنا علي فتح ملفات التاريخ الأوروبي أن نتخير من بينها تلك التي لدينا بالفعل مصلحة في فتحها. وبالتأكيد لن يكون ملف المحرقة من بينها لأنه مرةً ثانية وثالثة ليس ملفنا، لم نصنعه ولم نشترك فيه. فهو ملف خاص باليهود صنعوه بدمائهم أو بدهائهم، لا يفرق. ولكنهم أحسنوا في النهاية إدارته ونجحوا من خلاله في دفع الأوروبيين إلي تكوين عقدة ذنب تجاههم لا زالوا يكفرون عنها إلي اليوم. كما استغله قادة إسرائيل باستمرار لتعميق ذلك الشعور اليهودي المعروف بالشك المفرط وتقوية ما يُعرف عنهم من وسواس الاضطهاد كوسيلة يحافظون بها علي ما يعتقدون أنه النقاء اليهودي !!. وكان أن التقي الشعور الأوروبي بالذنب تجاه اليهود مع الشعور اليهودي بالخوف المبالغ فيه علي الذات في إطار مصلحة واحدة انتهت بدعم أوروبي واسع لاستكمال مشروع بناء وطن قومي لليهود في فلسطين. وهنا بيت القصيد الذي يعنينا من التاريخ.
فمشكلتنا مع التاريخ الأوروبي ليست في المحرقة وإنما مع الوعد الذي قُطع لليهود في فلسطين قبل وقوعها بنحو ربع قرن. فالمحرقة، بصرف النظر عن حجمها، وعن صدقها أو زيفها، لم يأت منها إلي المنطقة إلا ما تبقي في أوروبا من رماد. أما النار التي هبت منها فجاءت مع الظاهرة الاستعمارية التي لا زالت تداعياتها في فلسطين حية بآلامها ومواجعها منذ وعد بلفور في 1917 وإلي اليوم. فالمحرقة لا علاقة لنا بها، أما وعد بلفور فلمنطقتنا لها مصلحة في مناقشته تاريخياً وأخلاقياً وسياسياً، وأن يكون لها وقفة معه. ليست وقفة لإعادة عقارب الساعة إلي الوراء لأن التاريخ لا يسير بظهره أبداً ولم يثبت أن أحداً سبق أن رده لما كان عليه. فالتاريخ لا يعيد نفسه. ومع ذلك يمكن تصحيح بعض مآسيه التي تبقي دوماً مادة خام قابلة للتوظيف السياسي، لأن ما في التاريخ من ذكريات أليمة ومواجع درامية يعين، إذا ما تم توظيفه بعناية، في استنهاض الحس الإنساني لنصرة المظلوم.
ولأننا بعد حوالي عقد من الزمن سنكون قد قطعنا قرنا كاملا من المعاناة مع ما ترتب علي وعد بلفور، فإن منطقتنا مقبلة علي مناسبة تاريخية لها فيها مصلحة عليها الاستعداد لها من الآن بالتفكير في كل وسيلة ممكنة تجعل من مرور قرن علي هذا الوعد الاستعماري بدايةً لوضع الضمير السياسي العالمي كله والأوروبي منه بشكل خاص والبريطاني منه علي نحو أخص أمام مسؤولياته الأخلاقية التي لم نفاتحه بشأنها بما فيه الكفاية. فإذا كانت المحرقة التي وقعت في بضع سنوات قد كونت عقدة ذنب أوروبية هائلة تجاه اليهود، فإن المهلكة الفلسطينية الممتدة لقرن بأكمله أجدر بأن توقظ شعوراً أوروبياً وعالمياً أكبر بالذنب تجاه شعب اقتلع عنوةً من أرضه. فلنضع المحرقة اليهودية جانباً ولنتحدث أكثر عن المهلكة الفلسطينية. فتلك هي الصفحة التي تعنينا أكثر من التاريخ الأوروبي.
كاتب مصري
التعليقات