الإثنين:02. 01. 2006

أميمة الخميس

أيام حرب الخليج الثانية، وظف صدام حسين البعد الديني في حربه الإعلامية بشكل كبير، كجزء من حربه الشاملة ضد المنطقة آنذاك، ورشق كلمة الله أكبر على العلم العراقي، وأخذ يظهر في صورة الرئيس التاريخي البطل ذي العلاقة المتينة مع ربه، الرئيس ذي الصلوات الدائبة التي لا تنقطع، متناسيا في ذلك كل وصايا حزب البعث وقوانينة التي كانت ترى في الدين والعشائرية شكلاً من أشكال العلاقات القديمة المهترئة وأحد مظاهر النكوص والرجعية وملامح المجتمع في العهد القديم، والتي يجب أن تستبدل بعلاقات العروبة والوطنية، كشرط أساسي لمشروع النهضة العربي. لكنه بالتأكيد يعلم أن البعد الديني هو أحد المفاتيح العجيبة التي ينقاد بها الشارع العربي بسلاسة وتلقائية، ومن ثم سرعان ما ينضوي تحت شعارها... هذه الكلمة (افتح يا سمسم) مابرحت ناجعة وذات فاعلية بدليل أن القائد المهزوم في أسره مابرح يلوح بها، ويطالب هيئة المحكمة أن تتيح له فسحة من الوقت ليؤدي صلاة الظهر فوق الأرض العراقية المزروعة بالمقابر الجماعية كنوع من المزايدات السياسية التي مابرح يوظفها بشكل كاريكاتيري ومضحك عند كل ظهور إعلامي له.

إضافة إلى الكليشيه التقليدية المفخمة بالآيات القرآنية الكريمة والتي يبدأ بها مرافعته عن نفسه كإكسسوار متمم للمشهد.

فأثناء محاكمته الأخيرة، ولا أدري عن مدى علم صدام بكون هذه المحاكمة منقولة إلى العالم أم لا؟ وهل يدري بأن الكثير يتتبعها باهتمام كجزء من مشهد مثير وغرائبي؟

ولكن يبدو أن القائد المهيب المؤمن مازال قابعا في ذلك الخندق الذي يعجز عن مغادرته منذ الستينات والذي يحاصره ويطوقه بنمطية من تفسير العالم واستقباله بالشكل الذي يعجز عن التخلص منها، والتي يتوسل من خلالها جميع الأساليب والطرق التي كانت تحرض البسطاء والعامة للتصفيق له بالروح والدم، وحتى تصبح محاكمته محاكمة لبطل مسلم وليس لمجرم حرب زرع وجه العراق بالمقابر الجماعية، وضحى بمليون مسلم لمجده الخاص.

ولكن حينما يتسع المشهد أمام أعيننا..

يبدو مشهد محاكمة صدام مقطعا مسليا لفيلم أمريكي طويل.. فالذهنية العربية التي اعتادت عبر التاريخ على أن الحكم يتغير عبر الثورات والدماء والسحل والقتل، وتعليق الرؤوس على مدخل المدينة منذ كربلاء، كنوع من الانتصار البربري الذي يعلن زوال الحكم الماضي وجميع رموزه، واستبداله برموز الحكم الجديد تحت قانون، عاش الحاكم، مات الحاكم.

ترى هذه الشعوب اليوم (فوق السبورة الأمريكية) نمطا جديدا وغريبا عن المنطقة، فالثورات العسكرية التي شملت المنطقة في وقت ما والتي بدورها حولت جزءا كبيرا من العالم العربي إلى ثكنات تسبّح بحمد القائد ليل نهار وخلقت شعوبا عاجزة عن التفكير أو المواجهة السياسية، يحاول هذا الفيلم الأمريكي المسلي، أن يبرز جانبا آخر للاقتصاص من الخصوم وإحلال العدالة بشكل يحاول أن يجعله أكثر حضارية وتمدنا، من خلال لوحة إرشادية تعلم شعوب المنطقة الشكل الحضاري الذي يجب أن يقوم عليه قانون الثواب والعقاب.

لكن القضية تجاوزت شكل الدرس الإرشادي (والكتيب الذي يحتوي خطوات تشغيل الديمقراطية في هذا المكان)، وتحولت إلى مسرحية هزلية مضحكة، وتبرز المفارقة عندما نرى رموز الحكم السابق قد اندمجوا في أدوارهم بصورة كبيرة إلى الدرجة التي باتوا فيها ينظمون أنفسهم ويرتبون مرافعاتهم، ويستجلبون الأدلة والقوانين التي تخلي ساحاتهم بل يستعملون القوانين الدولية التي ترأف بحال السجناء والمساجين، وتمنع تعرض السجناء السياسيين إلى العنف أو الاضطهاد النفسي أو الجسدي.

ومازال صدام حسين يلوح بشعاراته على جميع المستويات فهو من ناحية يلوح بشعارات النشامى والقومية العروبية ومرة أخرى يعزف على الوتر الديني ويطلب إيقاف المحاكمة ليؤدي صلاة الظهر في قاعة المحاكمة .....إلخ.

وفي النهاية أجد أن لنا الحق أن نتساءل بعيدا عن أي شيء، ومن خلال منظر المحاكمة التي تبرز أفراد النظام القديم كمجموعة من مخلوقات في سيرك للفرجة، إضافة إلى هيئتهم المهلهلة وثيابهم الرثة، هل يتوافق هذا مع ميثاق أسرى الحرب الخاص بمعاهدة جنيف؟ وهل يتماشى مع الكثير من الحقوق الإنسانية التي أقرتها منظمة الأمم؟

لكنه ببساطة ... مات الملك ... عاش الملك ... النسخة الأمريكية.