الإثنين:02. 01. 2006


السفير: عبدالله بشارة

دنيا عجيبة غريبة.. كل يوم لها أحوال


هكذا تقول الاغنية الكويتية التي يشدو بها المغني المفجوع، وهكذا نختار من احداث الايام الاخيرة، بعضها للتعليق لأنها قريبة الى اهتمامي، فيها المفجع، وفيها المبهج، وفيها المتوهج، ولعلني اشير في اولها الى مأساة السياسي والكاتب والناشر غسان التويني صاحب laquo;النهارraquo; الممزوجة حياته دائما باستحقاقات النجاح وتسلل الالم المفجع..
لم اعرف الابن الشهيد جبران كما يجب، لكنني عرفت الاب كما سمحت لي ظروف العمل معا في الامم المتحدة في مدينة نيويورك خلال عملي ممثلا للكويت في مجلس الامن 78-79، وكان الاستاذ غسان التويني ممثلا دائما لجمهورية لبنان خلال فترة دقيقة من تاريخ لبنان، وصراع لبنان مع المنظمات الفلسطينية وانقسامه الداخلي وتمحور زعاماته السياسية وجمود القيادة ايام سركيس، وانعدام الوضوح في السياسة اللبنانية تفضيلا - كالعادة - للضبابية والاختفاء وراء الغموض..
كان غسان التويني اكبر من دبلوماسية بلده، وكان اضخم من جهاز وزارته، وكان اوضح من مواقف بلده، وكان اشجع من سياسيي لبنان، وكان ابلغ من مفرداتهم، وكان اشطرهم بل يمكن القول كان اكثرهم نجاحا واكثرهم صدقا، وكنت اتعجب من قدرته على صوغ مواقف في بلد لا يتخذ المواقف، وشاهدته ديناميكيا في تحركاته وسريعا في اتصالاته، لبنانيا حتى العظم في استفادته من كل الناس ومن كل الادوات التي وظفها لصالح لبنان، بما في ذلك اتصالاته معي كعضو في مجلس الامن، وكان يقود العمل اللبناني - في ظروف صعبة - بوقار القادم من بيت رفيع، كان له مقام وحضور أي laquo;كلاسraquo; متفوقا في النزاهة على اعضاء الصالون السياسي اللبناني، ومعه زوجته السيدة laquo;نادية التوينيraquo; الشاعرة الرقيقة ذات الجسيم النحيل التي تتحرك بمشاعر متدفقة وبخطوات ثقيلة، تعاني من مرض مزمن ولكنها تحمل الوجه الملائكي الناعم المتفائل..
وشاهدت غسان التويني يقف كالمارد على الصندوق الخشبي الذي ينام في داخله ابنه جبران، ويخفف من صراخ الابنة المفجوعة، ويخطب بكبرياء المجروحين، وترفع المتعالين، لا ثأر ولا انتقام، ويدعو الى وحدة وطنية تستخلص من التراجيدية التي عاشها غسان التويني في حياته الممتدة لثمانية عقود، وفصول التراجيديا في حياته معروفة ومدونة، وكنت اتساءل وانا اشاهد المنظر المحزن في عزاء الكنيسة عن قدرة الانسان على التحمل وقدرته على الارتفاع عند الشدة، واتصلت بمكتبه لأشيد بالرقي في المحنة والترفع عند المأساة.. ونتابع صدور laquo;النهارraquo; المشتعلة دائما ولا تموت لأن الذين يملكونها حاصلون على طاقة دائمة في الحياة..
وننتقل الى المبهج في تزكية محمد جاسم الصقر رئيسا للبرلمان العربي الانتقالي، تعبيرا عن المكانة الكبيرة التي تتبوؤها الكويت في محيطها العربي ودورها البناء في المؤسسات العربية المشتركة، وترجمة لثقة الدول العربية في قدرة السيد المرشح الكويتي النشط والطموح، وانسجاما مع تصورات هذه الدول وتوقعاتها من رئاسة المرشح الكويتي الذي تعيش السياسة واحداثها في خلايا جسمه، والتي يحملها في جينات العائلة التي ينتمي اليها، وانا سعيد برئاسة الصديق محمد الصقر، ولأنني عضو في الهيئة الاستشارية في مجلس التعاون واول رئيس لها، يمكن ابداء المخاوف التي تولدت من تجربة الهيئة الاستشارية في مجلس التعاون:
اولا: بذلت الكويت جهدا سخيا لتأمين نجاح المرشح الكويتي، مدعومة بقرار واضح وقوي من قادة مجلس التعاون، ومجندة ما لها من مكانة وتأثير وراء هذا المرشح، واستجابة الدول العربية بسبب موقع الكويت وبسبب كفاءة المرشح.
والتمنيات التي نضعها على طاولة الرئيس محمد الصقر جاءت في كلمته في الجلسة الاولى التي اشار فيها الى الموازنة الحكيمة والشجاعة بين الطموح وبين الممكن، وما اشار اليه الرئيس حسني مبارك في ضرورة المواءمة بين المصالح القومية والمصالح القطرية والتمييز بواقعية بين ما هو ممكن وما هو مستحيل.
ويتحمل الرئيس محمد جاسم الصقر مسؤولية كبيرة في الحفاظ على حياة البرلمان الجديد وتطوره ونشأته ولذلك عليه البدء في القضايا التي تنال الاجماع وهي جوهرية، ولا يمكن الجدل حولها، وهي حقوق الانسان وسيادة القانون واستقلالية القضاء، واحترام المواطنة وحقوقها ومسؤولياتها، وهي مبادئ - ليست حكرا على ثقافة دون اخرى - كما يقول الرئيس حسني مبارك، وليست قوالب نمطية جاهزة يمكن استيرادها أو تصديرها، وانما هي laquo;قيم ومبادئ انسانية تشترك فيها كل الشعوب والثقافات وان تباينت المراحل والاولويات والاشكال والادوات كل حسب خصوصيتهraquo;.. هكذا جاءت كلمة الرئيس حسني مبارك.
وفي هذه الفقرة دعوة الى التدرج في العمل، ومراعاة خصوصية كل دولة عربية واحترام التنوع القومي، والالتزام بحقائق الديموغرافية والجغرافيا والمصالح والاولويات لكل بلد، لأن البرلمان العربي هو امتداد للواقع الرسمي العربي، واعضاؤه من مجالس القليل منها منتخب والباقي معين ومن مشارب الرسمية الحكومية، ولا نتوقع ان يقع البرلمان الجديد في مطب دور المعارض والمناطح..
ثانيا: نتمنى ان يعطي البرلمان الجديد الاولوية للعمل الاقتصادي بكل جوانبه التجارية والنقدية والاستثمارية وهي جوانب تلقى الاجماع والقبول، وابرز مظاهرها التنفيذ الصادق لاتفاقية التجارة العربية بازالة التحفظات والاستثناءات واصلاح الواقع الضريبي، واعادة النظر في قوانين الاستثمار وابرزها حقوق المستثمر في المقاضاة والتحكم وضمانات رؤوس الاموال والخروج من قيود البيروقراطية الطاردة.
ونلاحظ بأن اختصاصات البرلمان ركزت على التكامل الاقتصادي وهو هدف بعيد المنال يحتاج الى مواصلة الدعم الجماعي، لأن هذا التكامل هو الطريق المؤدي الى تحقيق التبادلية في المنافع والمشاركة في المصالح، ودون الترابط التجاري لن تتحقق المشاركة.. مازلت اقول بأنه لا يوجد ما يشدني نحو ليبيا في اطار المصالح المشتركة، ولا يوجد لدى الليبي ما يشده نحو الخليج، وهناك مصالح تأخذني نحو لبنان ولا تأخذني نحو السودان، وبايجاز نضع امام الرئيس محمد الصقر التحدي وهو كيف تتحقق المصالح المتبادلة بين الدول العربية.. هذا البرنامج الطويل يشكل جدول اعمال دائما دون اثارة الحساسيات أو المخاوف التي ندركها نحن في الهيئة الاستشارية لدول مجلس التعاون وسعينا الى الابتعاد عنها حفاظا على استمرار التجربة..
كنت أقرأ صحيفة القبس في عددها الصادر يوم الخميس 29 ديسمبر حيث غطت المؤتمر الصحافي لرئيس البرلمان العربي السيد محمد الصقر الذي قال فيه بأن بعض الحكومات تسعى لجعل دور البرلمان العربي استرشاديا واستشاريا فقط، وليس تشريعيا رقابيا، وانه لن يقبل بهذا الوضع وسيترك منصبه اذا اقتصر دور البرلمان على الاستشاري فقط.
واتمنى ان لا يبدأ الرئيس الجديد عهده بالتلويح بالاستقالة.. اسهل شيء يعمله الانسان عند الشدة هو الخروج منها بالاستقالة، وانما نريده ان يصون التجربة ويراعي الواقعية، فالواقع يقول بأن البرلمان العربي يصدر الآراء والتوصيات فقط وليست له صلاحيات تشريعية، ولن تقبل اية دولة عربية ترك قضاياها وسيادتها في يد البرلمان الجديد مهما كانت شرعيته، ولهذا ندعو الرئيس الجديد ان يحافظ على هدوء المرحلة التأسيسية ويخاطب الممكن قبل المستحيل.
واخيرا اسعدني جدا حصول الرجل الفاضل يوسف الحجي راعي العمل الاسلامي الجماعي على جائزة الملك فيصل الخيرية، وعلينا ان نعتز بالعطاء الوافر والجهد السخي وتسخير كل الطاقات من اجل ما يؤمن به السيد الفاضل يوسف الحجي..
شاهدته في باكستان يفتتح، وتابعته في مصر يدشن، وقرأت عنه في افريقيا يوقع على خريطة المستقبل للعمل الاسلامي النظيف والراقي..
واشارك المشاعر المهنئة التي رافقت الاعلان عن حصول السيد يوسف الحجي على هذه المكانة المرتفعة، وعشت في المملكة واعرف الضوابط الدقيقة والموزونة التي تنظم الفوز بجائزة الملك فيصل، هنيئا لنا وللسيد يوسف الحجي تقديرا ومكانة وامتنانا..
وهكذا الدنيا كل يوم لها احوال، وكل يوم فيها مفاجآت وفعلا كما يقول المغني الكويتي دنيا عجيبة غريبة، كل يوم لها احوال..