الإثنين:02. 01. 2006

ميشال كيلو

الأصل في السياسة أن يرى النظام نفسه بدلالة وطنه. أما عندنا، وفي بعض الدول العربية من الطراز الشمولي، فالأمر مختلف، وعلى الوطن أن يرى نفسه بدلالة نظامه، لأن نظامه هو الوطن الحقيقي لبناته وأبنائه، فإن ضعف تهالك الوطن، وإن هدده شيء كان الوطن في خطر، وإن سقط أو زال اختفى الوطن من الوجود.
عندما يكون للنظام أولوية على الوطن، ويستحيل تصور الوطن بمعزل عن النظام، ينحط الوطن إلى مجال جغرافي ويتلاشى كمفوهم وكواقع، ويبرز عوضاً عنه نظام غير وطني، ينتج نفسه شيئاً فشيئاً انطلاقاً من شخص يجسد النظام، يرتبط الوطن بدوره به ويغدو بديلاً له.
لذلك، يتحول أي نقد يوجه إليه إلى جريمة بحق الوطن، وينقلب أي اعتراض على خياراته إلي خيانة عظمى موجهة ضده.
هناك أجيال عربية نشأت خلال العقود الأربعة الماضية على هذه التربية السياسية الفاسدة وهناك مؤسسات رسمية وأهلية حرصت على نشر دين سلطوي يقوم على عبادة النظام كما يتجسد في الحاكم، الجهة التي يدين المواطن لها بكل شيء. بما في ذلك وجوده الشخصي وقد طورت بعض الدول العربية لغة غريبة عجيبة جعلت quot;قائدهاquot; معصوناً ومقدساً ومنزهاً، مع انه لم يحكم بلاده وشعبه بالعقل، بل بالهوى، الذي كان الكواكبي يعتبره أساس الاستبداد.
وقد طورت هذه المؤسسات طقوساً جعلت صاحب النظام إلهاً بشرياً يقول للأشياء كوني فتكون وقد تشربت الأجيال الجديدة هذا الفساد إلى حد يحول بينها وبين إقامة صلة عقلانية مع وطنها، ويجعلها عاجزة عن فهم ما يجري، واقناعهم أنه لا قيمة لعقولهم، ما دام القائد معصوماً عن الخطأ، ولا يجب أن يكون لهم دور غير الانصياع لارادته والرضوخ لمشيئته، واطاعة أوامره ورغباته، لكونه الجهة التي ترى ما لا يراه غيرها، وتفهم ما لا يفهمه، وتعرف ما لا يعرفه، وتضبط أموراً لا يستطيع غيرها التعامل معها.
هذه النظرة، التي تقلب الأمور، رأساً على عقب، تنكر أن للوطن أية اهمية، إذا ما قورن بالنظام، وترى أن الأخطار لا تستهدفه، وإنما تستهدف دوماً نظامه، الذي يرتبط وجوده به، ليس للوطن أولوية، وليس الوطن ذاتاً سياسية ورمزية فاعلة، بل هو تراب عديم القيمة بذاته، إذا لم يحوله النظام إلى وطن بقي ضرباً من غبار بلا قيمة معنوية أو روحية أو سياسية. وللعلم، فإن النظام الذي يعطي نفسه الأولوية على وطنه هو دوماً نظام شمولي لا يعترف بغير مصالح من يمسكون به. يعيد انتاج وطنه انطلاقاً من هذه المصالح، التي تلغي غالباً مصلحة الوطن وتالياً الدولة العليا.
وقد عرف تاريخنا العربي الحديث أمثلة أظهرت المدى، الذي بلغه احتقار الوطن، أشهرها ما قيل وقبل وبعد هزيمة حزيران حول العلاقة بين النظام وبينه، وحول أولوية النظام عليه، حتى أن النظام أمرنا آنذاك أن نفرح، لأن العدو فشل في إسقاطه، ولم ينجح في غير احتلال جزء من أرض الوطن!
بعد احتواء الوطن في النظام، تم احتواء الاثنين في شخص الحاكم، الذي شرع يقول منذ منتصف السبعينات أولادي عندما يتحدث عن شعبه، وأرضي عندما يذكر وطنه، وجيشي أو طيراني أو بحريتي أو مصانعي أو ... الخ، ويؤكد انه مالك الأرض وما عليها، وصاحبها ومقرر شؤونها الوحيد، ولعل أكثر هذه الأمثلة وضوحاً ما قاله الرئيس السابق انور السادات في وصف حادث وقع بالبحر الأحمر.: أنا قلت لأولادي في الغواصة بتاعتي في البحر الأحمر بتاعي... الخ، واليوم نسمع من جديد اصواتاً رسمية تعتبر معارضة النظام خيانة للوطن، وترى في بعض موظفيه، رموزاً تفوق في اهميتها سيادته، وتقبل أن تضحي به من أجلهم، بحجة أن غيابهم سيدمر الوطن عبر تقويض النظام: الجهة التي لا يمكن ولا يجوز معارضتها أو الاختلاف معها في قول أو فعل.
في الأصل، تستمد النظم شرعيتها من قدرتها على خدمة مصالح أوطانها والتعبير عنها، وما تحققه لها من تقدم وتتيحه من مكانة في عالم الدول. اما عندنا، فلا شرعية للوطن، وتقتصر الشرعية على النظام، حتى إن فعل الأفاعيل بوطنة وألحق به أفدح الضرر.
ثمة، في السياق ظاهرة لا بد من التوقف عندها، هي أن النظم التي أعطت نفسها الأولوية على وطنها، أو اقامت تماثلاً بينه وبينها، واجهت هزائم متنوعة تسبب بها إضعاف رابطة المواطنة من جهة، والرابطة الوطنية من جهة أخرى، والعمل على احلال الارتباط مع النظام محل الارتباط مع الارض والشعب والسيادة الوطنية، قبل أن تسقط وتزول من الوجود، بينما بقي وطنها، الذي تحرر منها، واستأنف طريقه بأقدام متهالكة وجسد تنزف منه الدماء، لكنه استأنف على كل حال طريقه!