د. عبدالحميد الأنصاري

انصرف العام الخامس في الألفية الثالثة، مودعا، حزيناً، مثقلاً بكوارث واغتيالات وحوادث إرهابية مفجعة، زلزلت العالم جميعاً.آلاف البشر ماتوا ورحلوا بفعل كوارث الطبيعة (150 ألفا ضحايا تسونامي وكاترينا وزلازل ايران وسومطرة وباكستان) ، غير حوادث الطيران التي بلغت ذروتها.
وآلاف أخري ذهبوا ضحايا العمليات الإرهابية التي بلغت قمة ضراوتها، سواء في لندن وباريس والشيشان وشرم الشيخ والقاهرة وعمّان، ونيودلهي وبالي وكراتشي والسعودية والكويت وقطر ولبنان، أما العراق فالإجرام الإرهابي فاق كل التصورات، عمليات انتحارية تستهدف قتل أكبر عدد من البشر الأبرياء في المساجد والأسواق والمستشفيات وبيوت العزاء والحسينيات ومواقف الباصات والمطاعم - لم يشهد العالم إجراماً مثيلاً من قبل كما في العراق - وكانت ذروة الكارثة الإرهابية تصفية رموز الوطنية اللبنانية الحريري وجبران.
لقد كان (2005) عام تنامي الإرهاب بامتياز في المنطقة العربية، وظهرت تفاهة قيمة الإنسان العربي أمام السلطات القمعية والجماعات الإرهابية علي السواء.
لقد انشغل العالم كما لم ينشغل من قبل بالهم الإرهابي: مواجهة وعلاجاً. ولا أدل من تداعي قادة العالم الإسلامي الي (قمة مكة) التي شكلت نقلة نوعية في مسيرة القمم، بتبنيها وثيقتي (بلاغ مكة) و(خطة العمل العشرية)، لقد أكد القادة عزمهم علي مواجهة الفكر المتطرف وإدانتهم الإرهاب بشتي صوره، دعماً وتمويلاً وتحريضاً، وطالبوا بتجريم التحريض واستنكروا كافة المبررات المسوّغة للإرهاب وأكدوا قيم التسامح والوسطية وقبول الآخر والتعددية المذهبية وشجبوا فتاوي التكفير والكراهية. ويبقي أن تفعل كل دولة تلك التوصيات عبر تشريعات محلية تحاسب المحرضين ودعاة الكراهية.
كما شهد العام المنصرم ندوات ومؤتمرات دولية عديدة حول ظاهرتي التطرف والإرهاب، وقد حضرت مؤتمرين متخصصين أحدهما في لندن في الفترة 18 - 20 نوفمبر، نظمه المركز الإعلامي الكويتي مع صحيفة الشرق الأوسط الدولية وكان أبرز ما دار فيه الحديث عن ضرورة الإصلاح السياسي وإعادة النظر في المناهج والخطاب الديني ودور الإعلام في التصدي للفكر المتطرف وقد انتهي المؤتمر الي الدعوة الي مشروع إعلامي لمواجهة الفكر المتطرف ووسائل الإعلام التي تمارس دوراً تحريضياً مدمراً وكذلك المطالبة بتحريم وتجريم العمليات الانتحارية.
أما المؤتمر الثاني فقد نظمته وزارة التعليم العالي بالكويت مع نقابة العاملين بمعهد الكويت للأبحاث العلمية في الفترة 26 - 27 ديسمبر، بعنوان (المؤتمر الدولي الأول للأبعاد التربوية لعلاج ظاهرتي التطرف والإرهاب) وهو مؤتمر يمثل تطوراً نوعياً في تشخيص المرض الإرهابي وسبل الوقاية من جرثومة التطرف الكامنة في التنشئة الأسرية الخاطئة.
الالتفات الي البعد التربوي كعامل مسؤول في تقبل الفكر المتطرف، بدلاً من تحميل الخارج والمظالم الاستعمارية التاريخية المسؤولية - توجه معرفي صحيح لأن الإرهاب أساسه فكر عدواني كاره للحياة والأحياء زرع في عقل وقلب ناشيء لم يجد تحصيناً كافياً في المحضن التربوي الأول والذي يشكل خط (المناعة) الأول للتصدي أمام غزو فيروسات الفكر المتطرف. ولهذا كان بعض شبابنا صيداً سهلاً أمام دعاة التطرف ومشايخ التهييج السياسي والحاكمية وخطباء التحريض والكراهية.
لقد قُدمت أوراق جيدة عديدة تناولت المحاور المختلفة للمؤتمر، تفاعل معها الحضور عبر مداخلات وتعقيبات أثرت القضايا ويهمني بوجه خاص الإشارة الي ورقتين هامتين، الأولي بعنوان (البعد الأسري لعلاج ظاهرة الإرهاب والتطرف في الكويت) للدكتور ابراهيم محمد الخليفي، والأخري بعنوان الأبعاد الاجتماعية لظاهرة التطرف والإرهاب - رؤية كويتية للدكتور علي أحمد الطراح.
يفرّق د. الخليفي بين التطرف والانحراف وإن كان التطرف نوعاً من الانحراف عن القاعدة الاجتماعية والقانونية والأخلاقية في أنه ليس هناك أسرة لا تري في الانحراف انحرافاً، لكن التطرّف حركة في اتجاه القاعدة الدينية أو الاجتماعية وربما تم تشجيعها في البداية كأمر مقبول لا يسمونه تطرفاً حتي إذا تجاوزت الوسطية سموها تطرفاً.
وهو يبدأ بحثه برحلة في حياة ناشيء متطرف منذ الطفولة ونموها حيث لا يجد الطفل إشباعاً لحاجته في التقدير من قبل الأسرة نتيجة اختلال ميزان السلطة فيها ثم عزلته وتهميشه ثم صدمته بالهوة بين أقوال الكبار وأفعالهم، ويضيف الباحث: أن كثيراً من الأسر والمحاضن التربوية تمارس بعض مستويات التعصب عبر آلية إلغاء قبول الآخر المخالف، وينتهي الي ان إهمالنا التربوي انتج جيلاً هشاً سريع الغضب والانفعال ضعيف التحكم في المشاعر، سهل الإغواء بسبب تعطشه للعواطف الصادقة التي قد يجدها في أحضان المتطرفين، ويرصد الباحث ظواهر، منها: 1- كثرة العنف وجرائم الشروع في القتل، 2- حالات الاكتئاب التي قد تفضي للتفكير في الانتحار. 3- سهولة إغواء الناشئة وسرعة انجرافهم الي الانحراف.
ويطرح الباحث أسئلة حساسة، منها: كيف نجيب عن أسئلة أبنائنا عن الموقف تجاه من يخالفوننا في المعتقد كيف ندربهم علي التصرف حينما يرون منكراً كيف ندربهم علي التصرف عندما يتملكهم الغضب تجاه أمر تحدي مشاعرهم
أما ورقة د. الطراح فتقدم رؤية تحليلية ناقدة لمنظومتين (1) السياسات الاجتماعية لحكومة الكويت خلال ربع قرن وعلاقتها بتنامي التطرف، وهو يركز علي الدور الذي لعبته الحكومة من خلال الهيمنة علي كافة المناشط المجتمعية، الأمر الذي رسّخ مفهوم مجتمع الرفاه وما أفرزه من قيم اتكالية لم تحصن المجتمع وفشلت في تكريس المواطنة وتحقيق الاندماج الاجتماعي والهويات الإثنية (القبلية والعائلية والطائفية) مما أدي الي فراغ اجتماعي هيأ الشباب لتقبل الفكر المتطرف. (2) منظومة قيم التنشئة الاجتماعية، حيث تحولت الأسرة من الشكل الممتد الي الشكل النووي (زوج وزوجة وأطفال) وصاحب ذلك شيوع نمط استهلاكي أضعف قدرة الأسرة في غرس قيم الولاء والانتماء والمشاركة وزادت الشعور بالاغتراب والتهميش واللامبالاة اضافة الي ارتفاع وتيرة العنف الأسري وتراخي الأمومة وغير ذلك من الاختلالات التي أصابت الأسرة بالتصدع وجعلتها عاجزة أمام تنامي النزعات الدينية المتطرفة لدي أبنائها.
لقد أحسنت وزارة التعليم العالي بتنظيم هذا المؤتمر الذي سلّط الأضواء علي البعد التربوي للظاهرة الإرهابية، فهؤلاء الشباب الذين فضلوا الموت علي الحياة إنما هم نبت أسر لم تستطع ان تحيطهم بدفء العائلة وحنان الأمومة وشفقة الأبوة.

كاتب قطري