الثلاثاء:03. 01. 2006

د. أحمد البغدادي


لا أعتقد أن هناك أمة في التاريخ القديم أو المعاصر اعتمدت على اللفظ المجرد الخالي من المعنى وعدم القابلية للتحول إلى الفعل مثل أمة العرب كما يتبين ليس فقط من كتب التاريخ والمدونات والمراجع الأدبية، بل ومن المؤتمرات والندوات على اختلاف تخصصاتها والتي دائما تنتهي بتوصيات غير قابلة للتنفيذ الجزئي أو الكليmiddot;
أعتقد أن الأمر يعود إلى طابع الثقافة الشفهية الذي تتسم به الثقافة العربية، هل من الممكن أن نصدق أن كتاب تاريخ الرسل والملوك للطبري المعروف بـ''أبو التاريخ الإسلامي'' يقوم جميعه على الرواية الشفهية التي يعلن الطبري نفسه أنه لم ينظر إليها بعين العقل! كما ورد في مقدمة كتابه المؤلف من عشرة أجزاءmiddot; وإذا كان هذا أمرا مقبولا في الماضي فهو لم يعد كذلك الآن حيث لا اعتبار لأي دراسة أو بحث ما لم يعتمد مناهج البحث العلمي، بل إن منهج البحث التاريخي يعد من أضعف المناهج العلمية في البحوث الأكاديمية، وفي كتب الأحاديث يتم الاعتماد على سلسلة الرواة أكثر من الاعتماد على المتن أو نص الحديثmiddot;
هذا الأسلوب الشفاهي انتقل إلى حياتنا المعاصرة حيث أصبحنا نفضل لغو الكلام في كل ندواتنا ومؤتمراتنا لمجرد الكلام النظري غير القابل للتطبيق العملي، هذا إذا لم يكن الأمر كله لتنفيع البعض وقضاء الوقت في التسوق والراحة يومين على حساب الدولةmiddot; ومما يؤسف له أن الأمر لا يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى الإسفاف في كتابة ما يطلق عليه زورا وبهتانا ''الأبحاث''، في حين أنها ليست سوى مجرد أوراق كتبها ''الباحث'' وفقا لما يراه، أي أن الأمر لا يتعدى ''شوية'' آراء خاصةmiddot; والباحث هنا لا يهتم ولا يخشى العاقبة على سمعته الأكاديمية لأنه يعلم مسبقا أنه لا أحد يقرأ أو حتى يهتم أو يحاسب، وهو في النهاية أي كلام يا عبد السلام، المهم أن يفتتح الوزير المؤتمر وأن يزجى الشكر للدولة المضيفة ثم يفتخر المسؤولون بعدد المؤتمرات والندوات التي عقدت في الدولةmiddot;
لهذا السبب لا تمثل هذه المؤتمرات أي قيمة حقيقية للدولة المضيفة، بل هي مجرد ديكور يضاف إلى جملة الديكورات الأخرى، وأحيانا تكون الدولة غير راغبة في تطبيق التوصيات الصادرة عن المؤتمر كما هو حاصل في التوصيات الخاصة بالإرهاب من خلال تغيير المناهج الدراسية بسبب ضغط الجماعات الدينية، أو بسبب ضعف الكفاءة الإدارية للمؤسسات الرسمية، أو لعدم اهتمام الدولة بالموضوع من الأصلmiddot; مثلا ماذا يمكن أن تفعل الدولة بالتوصيات الصادرة عن مؤتمر حول الفلسفة؟ لكن هناك الكثير من المؤتمرات التي تصدر عنها توصيات مهمة وضرورية لتطور الحياة الثقافية والاجتماعية التي يمكن تنفيذها في مجالها المحدد، لكن المشكلة أن طبيعة آلية العمل في الدولة العربية وصلت إلى مستوى من التفاهة واللامبالاة بحيث إنه لا اعتبار للرأي الأكاديمي في عالم عربي يعمل وفقا لمبدأ ''من يملك لا يرى ومن يرى لا يملك''، وهو أمر طبيعي في عالم لا قيمة معرفية فيه للجامعة أو المؤسسات الأكاديمية بشكل عامmiddot;
إن القول بلا فعل أمر مذموم بالعقل والدين معا وقد نهى الله سبحانه عن هذا الأسلوب في الحياة بقوله تعالى للمؤمنين ''لمَ تقولون ما لا تفعلون''؟middot; وقديما قيل ''المعرفة قوة ''وهي الآن أكثر قوة وفعالية من ذي قبل، بل إن الغرب يتفوق على الجميع بفعل المعرفة وليس فقط بفعل القوة التقنية، بل إن ضعف العرب يكمن في نقل التقنيات المختلفة بدون السعي الجاد لامتلاك الأسس المعرفية لهذه التقانة، ولهذا السبب لا نزال متخلفين معرفيا، وكأن هذا البلاء وحده لا يكفي فأضفنا إليه سيئة إلقاء الكلام على عواهنه في المؤتمرات والندوات العلمية دون أدنى اهتمام بعواقب المستقبل واستحقاقاتهmiddot;