*محمد الرميحي


للكاتب الفرنسي المعروف أناتول فرانس رواية بعنوان (الآلهة عطشى) وقد حاز الكاتب الروائي الفرنسي على جائزة نوبل في الآداب عام 1939جزئيا بسبب هذه القطعة الفريدة من الأدب الرفيع، التي تصف جو الإرهاب الذي ساد بعد الثورة الفرنسية، لما اعتقده بعض من قام بها، أنه يملك الحقيقة المطلقة، وغيره يمارس الهرطقة والخيانة. فكان القتل العشوائي والاستئصال، حتى بدأت الثورة تأكل أبناءها، لأن الآلهة المطلقة، وهم رجال الثورة كانوا عطشى للدم.
إلا أن الملاحظ أن تلك الرواية المشوقة تتحدث عن تغيير في صور أوراق اللعب (الكوتشينة) وتبديل صورها التقليدية بصور أبطال الثورة، الأمر الذي لجأت إليه القوات الأمريكية عشية الحرب على العراق، فبدلت صور لعبة الورق بصور المطلوبين من المسؤولين العراقيين من زمرة صدام حسين.
وتأتي التعليقات على المحاكمة لرأس النظام العراقي السابق، وقد عرضت على التلفاز، لتكشف لنا صورة من الظمأ العربي للعقل والمنطق، فقد جاءت التعليقات المتناثرة في الصحافة العربية على محاكمة صدام حسين كي لا تخرج عن أربعة مسارات تدل دلالة واضحة على الوضع الفكري السائد، الذي وضع اللوم على الآخرين ويتجاهل بحمق الحقائق الشاخصة.
أول الصور تقول إن محاكمة صدام حسين مهزلة، لا لأنه لا يستحق المحاكمة، بل لأن الكثيرين غيره يستحقون أن يحاكموا مثله، منهم من يقوم بمحاكمته، ويضاف إليهم الأمريكان والإنجليز، وعدد من الأشخاص والقوى الأخرى حسب رأي الكاتب الذي تقرأ له. مثل هذه الآراء يتقبلها كثيرون، ولا يتبين لقائلها أو لكاتبها أن الخروج عن الموضوع هو ما يقوم به على وجه اليقين، فالمطروح هو ما قام به نظام صدام حسين (الذي كان عطشا للدماء) فقد استهتر بأرواح المواطنين ويتبين من سير المحاكمة إصراره على ذلك،في المقارنة التي نطق بها صدام نفسه بين (الأسود) في قفص الاتهام، وبين (القرود) خارجه،فالآخرون هم هراطقة وخونة! حسب تصنيف (القائد) الذي لم يمل من سماع شعار (بالروح بالدم) حتى صدقه.
ثانيا أن التهمة التي يحاكم عنها صدام حسين هي بسبب قتل (مئة وعشرين شخصا) من الدجيل! وحتى لو أضفنا حلبجة والقتل العشوائي، يضيف أولئك الكتاب، فعلينا أن نحاكم من باع صدام حسين ونظامه أدوات القتل، وهي حجة قد تنطلي على السذج، ولكنها تقود إلى تبرئة الفاعل المباشر بسبب توفير أداة الفعل من قبل آخرين، وهي كمن يقتل قريباً له، فيطالب بمحاكمة صانع سكين المطبخ، وهي أداة القتل.
ثالثا يذهب البعض للقول إن ما قام به صدام حسين جله إن لم يكن كله، هو بإيعاز من الولايات المتحدة والغرب، لذلك يجب أن يحاكموا بدلا منه، وهي حجة وإن بدت للعقلاء ضعيفة، هي للبعض حجة قائمة، لا يأتيها الباطل من بين يديها أو خلفها.
رابعا تذهب بعض التحليلات للقول إن كل ما نشاهده هو مسرحية، قرر القائمون بها أن يخرجوها في هذا الوقت بالذات، وقت الانتخابات العراقية العامة والحاسمة، حتى يخاف الشعب العراقي، ومن ثم يصوت إلى قوائم بعينها يعتقد أنها تحميه من عودة الشيطان المصاب بظمأ الدم.
ذلك غيض من فيض من التعليقات التي صاحبت وقوف الجلاد بالأمس أمام محكمة التاريخ الإنساني ليجيب عما اقترفت يداه من إثم.
المفارقة أن صدام حسين الذي نشأ فقيراً بل معدماً، وعرف اليتم والتشرد، وهو ليس عيباً في ذاته، ارتفع بسبب ظروف وتعقيدات التاريخ العراقي الحديث كي يصبح ذا سطوة وقوة لا تنازع أو تمس، فنسي منبته وربما نسي كونه إنساناً.
كان يستخدم بشرا ليأكلوا قبل أن يأكل، ويشربوا قبل أن يشرب، بل ونقل أيضا من شهود عيان، أنه لا يمس بيديه الرسائل المرسلة له من رؤساء الدول، خوفا من أن تكون مسممة. شخص أصيب بداء العظمة وعزف من حوله على وتر تضخيم الذات حتى صدق أنه هو بالفعل الآمر الناهي، حطم كل مؤسسة أو رجل أو مواطن يتوقع منه المخالفة في الرأي. وهو نفس الشخص الذي نشرت له وسائل الإعلام العالمية صورا يغسل فيها بنفسه ملابسه الداخلية.
كانت هناك صورة مضخمة لرجل لا يهزم، أو هكذا أراد له إعلامه ومناصروه تزلفا أو خوفا أن ترسم له صورة غير مطابقة، ولكن من يعرف النفس البشرية، كان يؤكد أن في ثوب ( الأسد) فأرا مرعوبا. وكان أهل العلم بالأمور يعرفون أن صدام حسين الصورة والمظهر ذا البطش غير المتناهي، يختبئ خلفهما رجل غير واثق لا من نفسه ولا مما يدعو إليه، يريد أن يحافظ على حياته بكل الأثمان. إنها صورة الجبن في ثوب الشجاعة، التي وجدت لها من الجهلاء من يصدقها.
يظهر صدام حسين في المحاكمات اليوم وفي يده قرآن كريم لم يتنبه إلى مقاصده يوما واحدا وهو في السلطة، فهو امتداد لتزييف الصورة التي انفضحت. فكان رعبه من الموت يفرض عليه قتل الآخرين دون رحمة، التف حوله عدد من الناس حازوا صفتين الخوف والجهل في آن واحد.
معظم التحليلات التي كتبت حتى اليوم عن محاكمة صدام حسين لم تتبين الفلسفة من ورائها، وهي أن الظلم مهما طال زمانه له نهاية، بالضبط كما توقع محمد مهدي الجواهري في قصيدته المعروفة (باقون.. وأعمار الطغاة قصار) لم يكن الجواهري يتنبأ أو يقرأ الكف، كان فقط يستقرئ التاريخ. وهو تاريخ قريب وبعيد يقول لنا بوضوح، كما كتب أناتول فرانس في الرواية المذكورة، أن المتطفلين على التاريخ والغافلين عن حكمة الحياة يظنون أنهم نصف الآلهة، فيبطشون بخلق الله، إلا أن الله واحد.


* كاتب كويتي