عندما تنافس الصورة سيرة حياة وأسطورة ثائر

نيويورك ـ أحمد مرسي

لا جدال في أن تشي غيفارا أصبح في حياته، خصوصاً بعد اغتياله في 1967، على الرغم من أن العالم نفسه لم يعد العالم نفسه الذي عاش فيه، شخصية أسطورية أقرب الى أبطال الأساطير الشعبية. وعلى الرغم من أن فيدل كاسترو نفسه، رفيق غيفارا في الكفاح، وربما كان مثله الأعلى في النضال من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية، من منظور عالم ما قبل نهاية الحرب الباردة، قد لا يضمن، في ظلّ المتربصين بكوبا، وفي مقدّمتهم الولايات المتحدة، في انتظار خلوّ مقعد بطل قومي أكبر من أن يشغله إنسان آخر، أن لا ينقلب على تراثه المدلّون والطفيليون والهوام، الذين ينتظرون هذه الساعة، ليدخلوا هافانا على ظهر حاملات الطائرات الأميركية.
وذلك، لأن غيفارا، فيما يبدو، بعد أن تحوّل بفعل آليات معقّدة الى أسطورة، لم تعد تنطبق عليه قواعد منطق الواقع الموضوعي المتغيّر أبداً. بل لم يعد ينطبق عليه المنطق نفسه. وربما كان اختبار هذه الحقيقة هو فيلم quot;راكب الدراجة ـ البخاريةquot; الذي تناول حقبة حاسمة من حياة غيفارا، على أثر تخرجه من كلية الطب وقيامه برحلة، على دراجة ـ بخارية في رفقة طبيب صديق، تعرّف فيها على مدى بؤس الطبقات الفقيرة في أميركا اللاتينية. ولا أغالي إذا قلت إن آثار هذه الرحلة كانت من القوة بحيث أيقظت وعي الطبيب الشاب برسالة، لم تدر بخلده من قبل، عندما كان لا يزال يعيش في كنف وبحبوحة أسرته المتيسرة، تتلخّص، كما بدت له في منطقة الأمازون، خصوصاً في مستعمرة مرضى الجذام، عن تخفيف آلام الإنسان جسدياً ونفسياً وتحريره من ربقة الخوف.
فقد أدى نجاح هذا الفيلم الى مسح الغبار عن صورة غيفارا، وربما عرّف به الأجيال التي توالت بعد وفاته ونشأت في عالم لا يعرف هذا النوع من الأبطال، عالم أبطاله نجوم التلفزيون وأشرار السينما الهوليوودية والشعوب المغلوبة على أمرها، عالم أبطاله من مخلوقات تكنولوجيا التخليق ـ الحركي، ومنشدي الراب.
وقد عادت، أثناء عرض الفيلم وبعد نجاحه واستمرت حتى الآن، صورة غيفارا الأيقونية، لتتربع قمصان الـquot;تي ـ شيرتquot; وأغلفة المجلات والكتب والبوسترات إلخ.


وحتى لا يتحول إحياء أسطورة غيفارا عرضاً موقوتاً، أو صرعة يمكن أن تلغيها صرعة أخرى، وضع المركز الدولي للفوتوغرافيا، في نيويورك، ختمه على الأيقونة آذناً لها بأن تدخل بانتيون الأيقونات التاريخية.
يُقال أن بورتريه تشي غيفارا ـ الصورة الفوتوغرافية الشهيرة quot;الثائر البطوليquot; Guerrillero Heroico التي التقطها المصور الكوبي ألبرتو كوردا في 1960 ـ أوسع الصور الفوتوغرافية إنتاجاً في تاريخ الفوتوغرافيا. وقد أثبت البورتريه ـ موضوع معرض مركز الفوتوغرافيا ـ قدرة فائقة على البقاء كمركز للثورة والتمرّد الشبابي، حتى على الرغم من انتشار استنساخه بلا نهاية على البوسترات، وقمصان الـquot;تي ـ شيرتquot;، وغيرها من الأشياء التي تُنتج على نطاق واسع. ويتناول المعرض قوة هذه الصورة غير العادية وتاريخ انتشارها. ويستّمر المعرض الذي افتتح يوم 9 كانون الأول حتى 26 شباط 2006.
إن صورة غيفارا كوردا، في غلاف ألبوم المغنية مادونا quot;حياة أميركيةquot; أو في الورقة النقدية quot;خمسة دولارات أميركيةquot; للفنان بيدرو مائير، حيث طبعت صورة غيفارا في مكان ابراهام لينكولن، تمثل الشعبية والثقافة ـ المضادة. وهي، صورة تشي، تستخدم اليوم في آن واحد ككاريكاتير ومحاكاة تهكمية، وصيحة استنفار لحركات ومفاهيم متفاوتة مثل تخفيف الدين العالمي، ومناهضة النزعة الأميركية (أمريكانيزم)، والهوية الأميركية ـ اللاتينية وحقوق الشعوب الأصلية.


ويتضمن المعرض الذي نظمه تريشازيف، الكيوريتور المكسيكي أعمالاً لفنانين ينتمون الى جنسيات مختلفة من بينهم فيك مونيز (الولايات المتحدة ـ البرازيل)، وبيدرو مائيير (المكسيك) ومارتن بار (إنكلترا)، وبوسترات أصلية معارة من مركز دراسة الأعمال الغرافيكية السياسية في لوس انجلوس، والمشغولات الفنية وتذكارات غيفارا. وتسجل هذه الصور تاريخ نشوء فوتوغرافي كوردا من بداية تصويرها الى استعمالاتها المعاصرة الحالية.


البرتو كوردا
لقد التقط بورتريه ارنستو تشي غيفارا يوم 5 آذار 1960، بواسطة البرتو دياز غوتييريز (1928 ـ 2001) الذي عرف باسم البرتو كوردا، مصور عروض الأزياء السابق الذي أصبح مصوراً شخصياً لفيدل كاسترو، وقد التقط كوردا لقطتين لغيفارا بينما كان يخطو نحو منصة احتفال تذكاري خلال جنازة جماعية لأولئك الذين قتلوا عندما انفجرت فرقاطة فرنسية تحمل ذخيرة في ميناء هافانا. وقد ذكر المصور أنه استمد إلهامه من حدة تعبير تشي الذي وصفه بأنه كان يجمع بين الغضب والحزن. وفي الصورة الأصلية يقف تشي بين رجل وسعفات نخيل، لكن كوردا عزل تشي في عملية الطباعة ـ وبذلك ولدت الصورة الأيقونية لنظرته المصممة.
إن ما حدث للصورة منذ لحظة التقاطها حتى حياتها الراهنة كواحدة من أشهر الصور في الثقافة الشعبية العالمية، كما يشير مركز الفوتوغرافيا/ حكاية معقدة ذات روايات متحاربة، فالصورة التي كانت مجهولة بشكل عام حتى استنسخت في إيطاليا لحظة وفاة غيفارا، انتشرت على أثر ذلك من المشهد العالمي كأيقونة ترمز الى انتفاضات الطلاب في 1968. وقد ظهرت في بوسترات ولوحات جدارية واستعملت في العديد من الاحتجاجات والتظاهرات أثناء السنوات اللاحقة.


ومنذ ذلك الحين اتخذت صورة تشي كوردا حياة خاصة بها. quot;ومن ثم، تعلن معتقدات غيفارا المعقدة في الغالب عن طريق رمزية صورته الثورية النوعية. لذلك، يستمر quot;الثائر البطوليquot; في الظهر فيما حول العالم كرمز يمكن التعرف عليه بسهولة لنطاق من النضالات البطوليةquot;.
وفي الوقت نفسه، أصبح quot;الثائر البطوليquot; ظاهرة معاصرة فريدة. وبعد 45 سنة منذ خلقها، وبينما تحتفظ بقوتها كرمز للثورة، اندمجت في عالم الثورة الشعبية، والموضة، والنجومية. وسواء قدمت كعمل فني معقد، أو استعملت كشخصية quot;شيكquot; راديكالية في سلعة تجارية، أو موضوع تهكمي، يمكن التعرف عليها مباشرةquot;.
وقد شارك في تنظيم معرض quot;تشي! الثورة والتجارة، الى جانب الكيوريتر المستقل تريشازيف، متحف الفوتوغرافيا بجامعة كاليفورنيا، ومركز دراسة الغرافيك السياسي، بلوس أنجلوس/ ومركز ايماجن/ مدينة المكسيك وزونيزيرو. كوم، والمؤسسة الانجلو ـ مكسيكية. ومن المقرر أن ينتقل المعرض من نيويورك الى متحف فيكتوريا آند البرت في لندن في 2006، وسوف يصدر المتحف كتاباً ليصاحب المعرض.
وحول مصور أيقونة quot;الثائر البطوليquot; يقول تريشازيف إن كوردا، مصور الموضة السابقة، منح من اللغة البصرية للأبطال الذين تحولوا الى أساطير في زمن الواقعية الاشتراكية، ومع ذلك، أبرز أيضاً سلوك تشي الكلاسيكي وحتى شبيه ـ المسيح. وفي الوقت نفسه، تعبر نظرة تشي الملغوزة عن التصميم والرغبة معاً.


أيقونة الشر

وكما اجتذبت أيقونة غيفارا الناس العاديين، في زمن ليس فيه أبطال، أثارت حفيظة دهاقنة عصر اليمين الرجعي الأميركي، ومن بينهم ناقد يكتب لصحيفة quot;نيويورك صنquot; التي تحمل لواء الرجعية، على الرغم من أنها تستكتب في كثير من الأحيان كتاباً غير موجهين، باستثناء الكتاب السياسيين، بطبيعة الحال. وسأكتفي بعينة من هذا الناقد الذي اعتقد أنه ينتمي الى كتيبة معلقيها السياسيين حتى لا أثير تقزز القارئ كما حدث لي.
يبدأ ويليام مايرز تعليقه المعنون quot;أيقونة الشر... ما الذي ينبغي أن يعرفه مشاهدو معرض مركز الفوتوغرافيا تشي غيفارا عن الرجلquot;، بقوله: كوبا بلد شيوعي. لن يكون هذا خبراً بالنسبة لقراء نيويورك صن، لكن ربما يكون بمثابة مفاجأة لزوار المركز الدولي للفوتوغرافيا. ففي الـ400 كلمة تقريباً التي تشكل quot;النص الحائطيquot; بالمدخل المفضي الى quot;تشي.. ثورة وتجارةquot; والتي تناقش بطلها الذي يحمل المعرض اسمه، لا وجود لكلمة quot;شيوعيquot; أو quot;شيوعيةquot;. وهذا مثل شرح من هو أسامة بن لادن بدون ذكر أنه مسلم.
وواضح أن الكاتب يوحي بأن كلمة مسلم تعني في حد ذاتها إدانة. وكما وصف مايكل بلومبرغ، عمدة نيويورك، عمال النقل المضربين وقادة اتحادهم بالبلطجة، وصف معلق quot;صنquot; غيفارا بأنه بلطجي مثير للرثاء ـ اجتماعياً، ويقول إن فيدل كاسترو، وشقيقه راؤول، وغيفارا استطاعوا أن ينحوا الثورة الكوبية بعيداً عن الديموقراطية عن طريق سياسات الغرفة الخلفية واستعمال الخوف والبروبغندا وسجن القادة الديموقراطيين الحقيقيين.
ولا يتردد الكاتب في أن يشيد بما سماه ديكتاتورية باليستا التي أطاح بها كاسترو بقوله إن كوبا في عهده وصل إجمالي ناتجها القومي الى أعلى معدل بين دول أميركا اللاتينية وبعد انقضاء أشهر على تعيين غيفارا كوزير للاقتصاد، أصبح البيسو الكوبي، الذي كان يعادل الدولار تقليدياً، عديم القيمة.
لكن المعلق لم يذكر أن الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة على كوبا كان ولا يزال هو السبب الرئيسي في معاناة شعبها ولست بحاجة الى سرد مغالطاته التي لا تستحق الرد عليها. وبالتأكيد لن تخدش أيقونة غيفارا بعد أن دخلت بانتيون الأسطورة الشعبية.