جورج الراسي

ظاهر الأزمة الراهنة خلاف بين تشاد والسودان، وتصريحات نارية يُطلقها المسؤولون في نجامينا ضد الرئيس عمر البشير وحكومته، بتهمة الإعداد لحرب ضد تشاد، إذ تتهم نجامينا الخرطوم بالوقوف وراء الهجوم على منطقة أدري الحدودية بين البلدين في 18 كانون الأول الماضي، الذي شنّته مجموعات مسلّحة تشادية معادية للرئيس ديبي. وتقول العاصمة التشادية إن قواتها قتلت ما لا يقل عن مئة متمرد، ولاحقت فلولهم داخل الأراضي السودانية على مسافة خمسة كيلومترات، ثم انسحبت.
وكان عشرات من الجنود التشاديين قد فروا من ثكنتهم العسكرية في أواخر أيلول الفائت وأعادوا تنظيم صفوفهم قرب الحدود السودانية. كما أن مجموعات مُعارضة عديدة تشكّلت في شرق تشاد خلال السنوات الماضية خصوصاً بعد لجوء أكثر من 200 ألف شخص هرباً من الحرب في إقليم دارفور السوداني. فالقبائل ذاتها تسكن جانبي الحدود، وهذا هو الوجه السوداني الوحيد للأزمة، أما الباقي فهو مسألة تشادية مئة في المئة، ويجري استخدام بعبع الخرطوم لمجرد التهويل وتغطية حقيقة الصراع بستار من الدخان.
فعلى رأس المعارضة المسلحة هيئة quot;التنسيق بين الأحزاب السياسية للدفاع عن الدستورquot;، التي تضم أكثر من عشرين حزباً، ويتحدث باسمها حميد دهالون وبين أبرز قادتها العسكريين الملازم داوود علي قائد كتيبة مدرعات أدري ومحمد نور رئيس حركة quot;التجمع من أجل الديموقراطية والحريةquot; الذي هدد بهجوم جديد على quot;أدريquot; وباقتحام نجامينا. والتجمع الذي أُنشئ في آب الماضي له قواعد في دارفور. ونور من قبيلة تاما التي تنتشر على جانبي الحدود والتي شاركت في الثورة التي أطاحت حسين حبري وجاءت بديبي الى الحكم عام 1990. وهنالك جماعة مُسلحة مماثلة تدعى quot;منبر التغيير والوحدة الوطنية والديموقراطيةquot; يتزعمها يحي ديللو دجيرو وهو مهندس شاب عمره 31 سنة تخرّج لتوّه من جامعة أوتاوا في كندا ـ فرع الهندسة الكهربائية.
لكن الأمور لا تقف عند هذا الحد. وهي أكثر تعقيداً وتشابكاً وتتعلّق أساساً بحسابات قبلية محورها قبيلة الزغاوة المتواجدة بكثافة على جانبي الحدود مع السودان، والتي ينتمي إليها الرئيس ديبي. الشرخ الأول حدث في شهر تشرين الثاني 2003 حين أبدى الرئيس للمرة الأولى رغبته في تعديل الدستور لكي يترشح لولاية ثالثة عام 2006. جرى ذلك خلال مؤتمر عقده الحزب الحاكم quot;الحركة الوطنية من أجل الخلاصquot;، مما حدا بوزير الداخلية آنذاك أحمد سوبيان الى الانسلاخ عن الحزب، واللجوء الى الولايات المتحدة الأميركية.
الشرخ الثاني جرى في 16 أيار 2004، حين حاولت عناصر من قبيلة الزغاوة تنفيذ انقلاب عسكري والتخلّص من الرئيس ولو بقتله. وتمّت لفلفة القضية حينها بتسويات سرية صاغها شيوخ الحل والربط، لكنها تركت آثاراً إذ عَمَد الرئيس الى تنحية بعض ضباط قيادة الأركان، وإبعاد شخصين من ضمن الحلقة الرئاسية الضيّقة، هما الأخوان توم هرديمي المسؤول عن الملف النفطي، وتيمان هرديمي رئيس شركة القطن التشادية. فقاطع الأخوان الاستفتاء على التعديل الدستوري في حزيران الماضي.
أما الشرخ الثالث اليوم، للسنة الثالثة على التوالي، فقد تمثّل بتمرد مسلح شرق البلاد ضم مئات عدة من الأشخاص ومن قبيلة الرئيس نفسها. وعلى الرغم من أن القوات الحكومية أخرجتهم من مدينة أدري في 21 تشرين الأول المنصرم، إلا أنهم عادوا الى تجميع أنفسهم في مناطق جبلية داخل حدود السودان. لذلك تلجأ حكومة نجامينا الى تصوير الصراع على أنه خلاف تشادي ـ سوداني لإبعاد الأنظار عن حقيقة الشروخ الداخلية في حلقات النظام الضيّقة.
ويعرف أهل تشاد أن التغيير في بلادهم يأتي دائماً من الشرق. هكذا جرى عام 1982 حين قاد حسين حبري حملته انطلاقاً من السودان حتى دخل العاصمة وأسقط حكم غوكوني ودَّاي. الشيء ذاته فعله ادريس ديبي عام 1990 حين أسقط نظام حسين حبري.
ومما يزيد الأمر صعوبة أن القوات الحكومية التي حاصرت المتمردين في أدري في تشرين الأول الماضي والتي كانت مُكوّنة من الحرس الجمهوري رفضت إطلاق النار عليهم. وكان الجنود يصرخون quot;إنهم إخوانناquot;. وهكذا فعل المتمردون. إذ إن الجميع أبناء قبيلة الزغاوة. وقد دفع هذا الحادث الرئيس الى حل حرسه الجمهوري والاستعاضة بقوات أخرى. وقد تقلّصت قاعدته القبلية اليوم، ولم تعد تشمل إلا فرع البديات وفخذ البوروغات الذين يتواجدون في منطقة الأندّدي شمال ـ شرق تشاد. وكان الضباط والجنود الزغاوة في الجيش قد أخذوا على الرئيس التشادي في الأعوام الماضية عدم نجدة إخوانهم في دارفور. لكن الأزمة الحالية تضرب جذورها في أسلوب إدارة الدولة، وفي الفساد المستشري خصوصاً بعد وصول الدفعات الأولى من صادرات النفط. فالرئيس الذي يُقال أنه مريض لكثرة تردده على العيادات الباريسية، والذي يُقال أنه يُعِدّ ابنه ابراهيم (28 سنة) لخلافته على الطريقة المعهودة في الجمهوريات التقدمية، تحوم حوله أيضاً الشبهات بخصوص صرف أموال النفط الى درجة اضطرت البنك الدولي الى الإعراب عن قلقه بعد أن تلقى تقريراً بهذا الشأن من لجنة مُختصة. فالنفط المستخرج منذ عام 2003 كان ينبغي أن يُساهم في تمويل مشاريع البنى التحتية إضافة الى الصحة والتعليم. لكن يبدو أن الشفافية في إبرام الصفقات معدومة. وعلى الرغم من تواضع مجمل المداخيل إذ بلغت 84 مليون دولار عام 2004، حيث تمّ استخراج 63 مليون برميل من حقول دوبا جنوب البلاد، إلا أنها تمثل 42 في المئة من موازنة البلاد.
وكان قانون نفطي سُنّ عام 1999 ينص على تخصيص 10 في المئة من العائدات للأجيال القادمة. ويبلغ رصيد هذا الحساب المجمد ـ تحت رقابة البنك الدولي ـ نحو 28 مليون دولار. إلا أن الرئيس ديبي قام أخيراً بزيارتين الى بلجيكا (23 ـ 25 تشرين الثاني) وفرنسا (25 ـ 27 من الشهر ذاته) لكي تساعده على وضع اليد عليه بحجة دفع مرتبات الموظفين.. أو ربما اشتم عاصفة آتية. والله أعلم..