يوم عسل و يوم بصل: مثل عربي تقليدي يقصد به ان الحياة مليئة بالتناقض و من يشك في واقعيته عليه ان ينظر الى ما حدث في العراق عام 2005 و بالاخص في الاسابيع الاخيرة . فبمشاركة ملايين العراقيين في انتخايات حرة لحكومة جديدة قد تقاسمت الاخبار على الصفحات الاولى مع القصص اليومية للقتلى من الامريكيين و العراقيين . هنالك شواهد على الاستقرار والاضطراب و التحسن الاقتصادي و التخريب و المشاركة السياسية و الابتعاد عنها. ان كل ما يكتب عن العراق يكاد يكون صحيحا . في ما يخص الجانب الايجابي , فقد صوت العراقيون ثلاث مرات في سنة 2005 مرتين لانتخاب حكومة وطنية ومرة على الدستور . الاقتصاد العراقي حقق نسبة نمو قدرها 4% تقريبا في السنة الحالية المنتهية . صناديق الاقتراع اظهرت ان ثلثي العراقيون متفائلون بمستقبلهم و هناك مناطق واسعة في البلاد يسودها استقرار نسبي, لكن من الدقة القول ان نصف القدح لايزال غير مملوء و الاكثردلالة على ذلك استمرار التمرد . بالاضافة الى وجود مئات المقاتلين من القاعدة الذين دخلوا العراق من الدول المجاورة .
انتاج النفط ـ بمعدل مليوني برميل يوميا ـ ليس افضل مما كان عليه قبل سنتين و اقل مما كان قبل الحرب , فمعدلات انتاج الطاقة الكهربائية اقل ب 10% قبل الحرب . فمتابعة تدريب عناصر قوى الامن الداخلي البطيئة تثير الجنون . لقد مرت اكثر من ثلاث سنوات تقريبا على الحرب ولكن اقل من 40 الف فقط يتمتعون بالمستوى المطلوب .
هذه الصورة المشوشة تنعكس ايضا على الواقع السياسي في الولايات المتحدة , فبالرغم من الخطابات الاربعة التي وجهها الرئيس بوش حديثا الى الامة في المكتب البيضاوي و التي دعت الى التأييد السياسي للحرب في الداخل , الى ان النقاش مازال مستعرا حول هل كانت الحرب ضرورية , ام ان هنالك طريقة اخرى ؟ , هل التكاليف اكثر من المنافع ام العكس بالعكس ؟ . ان موضوع الوقت والطاقة هو افضل ما يجب علينا مناقشته لمواصلة عملنا، فعند نهاية 2005 و بداية 2006 سيكون امام الولايات المتحدة خياران جوهريان , دعم الوجود الامريكي الا ان تكون للحكومة العراقية حصة الاسد في مواجهة عبء اقرار الامن , او تحديد موعد زمني بصورة اعتباطية يتراوح ما بين 6 ـ 10 اشهر لخروج جميع القوات الامريكية من العراق ـ تحديد موعد زمني الذي يلح عليه الجمهوريان جون مارشن و نانسي بيلوسي و اخرون يبقى بلا جدال هو ما تفضله الاقلية في الكونغرس, و هي الكتلة الوحيدة من غير الحكومة العراقية التي يمكنها ان تفرض احد هذين الخيارين على الرئيس ـ خيار كهذا يجب و يتوجب ان ينظر اليه بجدية فقط عندما يصبح من المؤكد ان لا فائدة من الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة .
ان الحظ وحده هو الذي سيكفل لنا عدم بلوغ هذه المرحلة . الالتزام بالانسحاب في ظل الظروف الحالية لا يتسم باللامسؤولية فحسب بل انه سيقوض قيمة التضحيات التي قدمت لحد الان . بل ان الانسحاب العاجل سيؤدي الى حرب اهلية بين السنة و الشيعة و الكرد و التي ستنسحب على الدول المجاورة , لماذا يستوجب منع ذلك ؟ ان الفوضى اذا عمت في بلد له مثل موقع العراق و ثرواته , ستكون باهظة الثمن و سيتمكن المتمردون من ترسيخ اقدامهم فيه بقوة .
انتاج النفط و الغاز الذي يعتمد عليه الاقتصاد العالمي ستسوده الفوضى و ستتاثر نظرة واحاسيس الحكومات الموالية للغرب نحو الولايات المتحدة كصديق وحليف يمكن الاعتماد عليه . الخيار الوحيد المطروح امام الولايات المتحدة الآن هو مواصلة السير الذي طالما عبر عنه الرئيس بوش في سياسته , لكن هذا التعبير قد استعمل بصورة خاطئة اذ يتطلب سياسة ثابتة في حين ان سياستنا في تغير مستمر .
لقد ادركت ادارة بوش اننا لايمكن ان ندعم الجهد الحربي بوضعه الحاضر المرهق للجهد البشري و المادي . فتقليص القوات سيقلل من الضغط السياسي على البيت الابيض في الداخل و الخارج و سيلتقي مع المثل القائل ان التمرد و الى حد ما هو الا ردة فعل للوجود الامريكي الواسع في العراق .
ان تقليص الوجود الامريكي على المدى القريب يمكن تبريره على اساس ان حجم الجهود الامريكية ربما في واقعه سيبطئ من نشوء جيش عراقي مقتدر و هو ما سيقلل الحاجة الى مثل هذا الجيش و سينبثق ما يوصف بفكرة الاتكال على الجيش الامريكي . سنتطلع الى السعي لاعادة توجيه القوات الامريكية لتدريب و ارشاد القوات العراقية بدلا من القيام بالعمليات الهجومية , و سيزداد التركيز لدى القوات الامريكية على وجودها في المناطق الامنة تاركة مهمة قتال المتمردين الى الجنود العراقيين و الشرطة و هو ماسيقلل ايضا من خسائر الولايات المتحدة
.
ان الامل الكبير الذي يراود البيت الابيض هو في تحقيق تقدم سياسي و عسكري و اقتصادي يدعم كل منها الاخر , وان النظرة لدى الولايات المتحدة هي في حث القيادات السياسية المهيمنة للشيعة و الاكراد لاعطاء الاقلية السنية مراكز ذات اهمية في الحكومة القادمة و سيضغط على القادة الشيعة و الاكراد لاجراء تعديل على الدستور المنبثق حديثا ليلبي تطلعات السنة المشروعة والهدف هو التقليل من تغريب السنة و هو ما سيخفف من العنف و سيمهد الطريق لاعادة البناء الاقتصادي الذي سيقلل من عزلة السنة . ان الهدف من هذا هو مايمكن التعبير عنه بخلق عراق تنتظم فيه القيم و المعايير , ولكن هل سيمكن الوصول الى ذلك ؟ الحقيقة لا احد يعلم . فالامر متروك للعراقيين الذين سيقررون مستقبل بلدهم و ليس الامريكان .
هنالك اخبار جيدة تشير الى ان الايضاحات التي قدمها الرئيس للجمهور عن سياسته في العراق و ما اتسمت به من لهجة اكثر اعتدالا قد ضيقت من الانقسامات في الداخل و وفرت الوقت لجعل الاحداث تسير بطريقة ايجابية . من حيث المبدا من الممكن ان يلملم العراق اشلاءه في يوم ما وهو ما يسعى اليه الرئيس و ذلك عن طريق ديموقراطية ناجحة مسالمة مع نفسها وجيرانها و تكون نموذجا يتنافس فيه مع الدول الاخرى في الاقليم . لكن على المرء ان يكون متفائلاً و واثقا الى حد ما من هذه المحصلة . الاحتمال الاكثر و الذي يختلف عن هذه المحصلة و يقل عنها هو تولي العراق وحده هذه المهمة ولكن بوجود حكومة مركز ضعيفة و اقاليم شبه مستقلة من بينها شمال يهيمن عليه اكراد علمانيون الى حد ما و جنوب يهيمن عليه شيعة اكثر تدينا مع غرب مشابه يسيطر عليه السنة و وسط يضم خليطاً غير مستقر في الاعراق بضمنه العاصمة بغداد , انها بلا شك افغانستان وما يجري فيها يوميا لكن بدون مزارع الحشيش . حصيلة كهذه ستخلق جعبة تختلط فيها اوراق اولئك الذين ياملون بان التغير في العراق سيدفع الى التغير في المنطقة و وجود ديموقراطية فاعلة في العراق سيشجع الاصلاحيين فيها . لقد قيل هذا بعد ثلاث سنوات من العنف و فقدان السنة لمواقعهم القيادية و ازدياد الحماس الديني و هو ما جعل الكثير من العرب ينفرون من اتباع ما حدث في العراق . و مع ذلك فان اعتماد العراق على نفسه سيكون جيدا و بالاخص في هذا الوقت . ففي السياسة الخارجية في بعض الاحيان يكون من الافضل تجنب الكارثة على السعي لتحقيق الافضل وهو ما يحتاجه هذا الوقت .