الجمعة:06. 01. 2006

ميشيل كيلو

قدم أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى مبادرة حميدة تستهدف تسوية المنازعات العربية العربية، بإعطاء الجامعة حق التدخل من أجل الحد منها، وتشكيل محكمة عدل وتحكيم تعمل على حلها قبل استفحالها وتحولها إلى تدخلات وحروب أهلية وقتال بين دول.

ومع أن مبادرة عمرو موسى تأخرت كثيرا، فإن الذنب في ذلك لا يقع عليه إلا بصورة جزئية، ذلك أن أمين عام الجامعة ليس، في النظام العربي القائم، مفوضا مطلق الصلاحية يفعل ما يشاء ويقرر متى يشاء، بل هو رجل يضعه هذا النظام في موقع متفرج يتلقى الضربات من جميع الجهات، نيابة عن الآخرين. ومع ذلك، فقد قرر فعل شيء للتخفيف عن نفسه وحماية ما بقي من أمن وسلام عربي، ومن حرية واستقلال في هذه المنطقة المنكوبة بسياساتها.

والحق، أن المبادرة الصحيحة، التي جاءت متأخرة، تبقى أفضل من ترك الحبل العربي على غاربه، والسماح بتفاقم نزاعات وصراعات العرب واشتدادها وخروجها عن السيطرة، إما بسبب الخلافات المستحكمة بين كل بلدين عربيين جارين، أو بين الحكام والمحكومين في جميع الدول العربية، أو تحت وطأة تشقق وتصدع أبنية المجتمعات العربية ذاتها خلال العقود الخمسة الماضية، التي نقلتها من مجتمعات كانت ترغب في التوحد ضد عدو خارجي، إلى مجتمعات ممزقة متناقضة التكوينات، يتلاعب العدو الخارجي بها كيفما شاء، لأن بعضها يحتمي به من بعضها الآخر. إذا أضفنا إلى ما سبق واقعة مفزعة هي أن النظام العربي، الذي قام بعيد الحرب العالمية الثانية، وتمثل في الجامعة العربية، صار كثوب ممزق ومملوء بالثقوب، وأن عمرو موسى يحتاج إلى أصابعه العشر لسد ثقوبه، وأن عليه البحث عن حلول مبتكرة له، وإلا انكشف الجسم العربي تماما، وتلاعبت به العواصف الهوجاء، التي تهب على العرب من كل حدب وصوب، وآل البناء العربي برمته إلى التداعي والانهيار في مستقبل قريب، بعد أن تهالكت وتداعت أجزاء كثيرة منه تحت ضربات الأخوة قبل ضربات الأعداء، وصار صحيحا القول: إن دود الخل منه وفيه!

وكان قد سبق إعلان الأمين العام أزمة مع أطراف حاكمة في لبنان، ترتبت على محاولته القيام بوساطة بين بيروت ودمشق، لوقف التدهور والتصعيد بينهما وكبح اندفاعهما إلى كارثة محققة يذهبان إليها بعزيمة وتصميم، كمن يندفع إلى غنيمة يريد أن لا تفوته. فهم هذا الطرف اللبناني أن عمرو موسى يساومه على دم الحريري: وهو في نظره أساس شرعية السلطة الجديدة، سلطة الاستقلال الثاني، مقابل كف يد سوريا عنه وتخفيف ضغوطها الخانقة جدا عليه. ولأن عمرو موسى رجل ذكي، فقد انتقل من بذل جهد فردي وشخصي رسمي الطابع إلى بذل جهد يريد أن توافق عليه الدول العربية، يضيف إلى النظام العربي القائم مؤسسات جديدة تستطيع التدخل بفاعلية لحماية الأمن والسلم العربيين، تتخطى صلاحياتها العمل على حل الأزمات بعد تكونها وتفاقمها، ويركز على منع وقوعها، وإلا فعلى حصرها في أضيق نطاق ممكن، بحيث تبقى أزمات باردة، ويبقى مكان في سياسات أصحابها للصلح والتفاهم، بعد أن امتلأت الحياة العربية الرسمية والشعبية بالدم والقتل خلال العقود الأربعة المنصرمة، وصار المواطن العربي يخطب ود حكومته بإبداء الحقد والعداء تجاه خصومها من بنات وأبناء أمنا المنكودة، التي زادتها تمزقا على تمزق سياسات خرقاء تتجاهل مصالحها ومشاعرها وحقوقها، رسخت ما كان الاستعمار قد فعله ضدها، حين فككها إلى كيانات ضعيفة شرع بعض حكامها يفتعلون خلافات مصطنعة بين أجزائها ومناطقها ودولها، ويضعون السلاح في أيدي أبنائها، ليقتل الأخ أخيه ويوفر العدو، ويذبح من يمكن أن ينجده في الشدة، ويوفر من يذبحه كل يوم وساعة ولحظة.

هل سينجح عمرو موسى في مسعاه، وسط هذا التمزق العربي، الذي لم يعد أحد يعرف كيف يوقف تفاعلاته القاتلة، وينساق المسؤولون وراء متطلباته وكأنها مصالح عربية وقومية عليا لا يرقى إليها شك؟ وهل أعلن الرجل ما أعلن بعد اتفاق مع الحكومات العربية أنتجته استشارات ومداولات سرية، أم أنه أعلن ما أعلنه كي يضعها أمام مسؤولياتها، ويفرض خياراته عليها في أجواء من العلنية والشفافية والعمومية تشكل عنصرا ضاغطا عليهم، وقد أفزعه تدهور أحوال العرب السريع، وأخافه بصورة خاصة ما يجري بين سوريا ولبنان، البلدان اللذان كانا يتغنيان إلى ما قبل أيام قليلة بالأخوة ويقدمانها كأنموذج يجب أن يحتذي به العرب والعالم، وصارا خلال أسابيع معدودة عدوين يتجهان بسرعة نحو صدام سيهشمهما وسيكون ضرره أشد عليهما من الضرر، الذي قد يسببه العدو ldquo;الإسرائيليrdquo; ذاته، المنتفع الوحيد من صراعهما الراهن؟

إذا كان عمرو موسى قد أعلن نتائج استشاراته، فهذا الإعلان يكون إنجازا تاريخيا حقيقيا بالنسبة إلى العرب جميعا، وخاصة منهم من سئموا الاقتتال والخلافات ويريدون فتح صفحة جديدة في تاريخهم. أما إذا كان يعلن ما هو راغب فيه، وما يجب أن يكون، فلا مفر من أن تساعده شعوب الأمة العربية وقواها السياسية والثقافية والنقابية والمجتمعية الحية بجميع الطرق المتاحة: من توقيع بيانات التأييد إلى تنظيم حملات تضامن متنوعة الأشكال والصيغ، إلى احتضان مشروعه وجعله مشروعا شعبيا وليس مجرد فكرة رائعة يطرحها مسؤول من موقعه الضعيف، يمتصها الواقع العربي القاسي، الذي سيجد بالتأكيد الوسائل والسبل الضرورية لإفراغها من مضمونها، وتحويلها إلى عامل إضافي يبعث اليأس في قلب المواطن العربي، اليائس أصلا.

لا مراء في أن العرب بلغوا مفترق طرق، وأنهم سيذهبون من واقعهم الراهن إلى موت أكيد، إذا لم يجدوا سبلاً تتكفل إخراجهم مما هم فيه من ضعف وعجز. والحال، ليس إعلان عمرو موسى غير واحدة من هذه المحاولات الإنقاذية، التي لا يجوز أن تبتلعها رمال السياسات العربية المتحركة، وإلا كان فشلها دليلا آخر على ضياع أهلية عرب اليوم للبقاء.