محمد السمَّاك

ماذا يجري في مصر بين المسلمين والأقباط؟... ماذا يجري في السودان بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والوسط، وبين الوسط والغرب؟ ماذا يجري في إيران بين الفرس والعرب من سكان منطقة الأهواز الممتدة على طول الشاطئ الايراني على الخليج العربي؟ ماذا يجري في البحرين وفي الكويت بين السنّة والشيعة؟... ماذا يجري في الأردن بعد أن طلب متموّلون من الشيعة العراقيين الذين حصلوا على الجنسية الأردنية بناء حسينية في عمان؟... ماذا يجري في الجزائر بين العرب والأمازيغ (البربر)؟... ماذا يجري في سوريا بعد الاضطرابات التي فجّرت فجأة ـ ومن دون سابق إنذار ـ مع الأكراد في شمال البلاد؟... ماذا يجري في لبنان بين المسلمين والمسيحيين، وبين الشيعة والدروز؟... وماذا يجري في تركيا بين العلويين (25 مليوناً) وحكومة أنقرة؟... ثم ماذا يجري في العراق بين الأكراد والعرب، وبين المسلمين والمسيحيين، وبين السنّة والشيعة؟ وبين التركمان والأكراد؟
هل ان كل هذه الأحداث تنفجر بالصدفة؟... أم أنها جزء من عملية شاملة تستهدف إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط؟ وما هي صورة هذه الخريطة؟ هل أنها تستهدف طي صفحة الهوية العربية وتسفيه الجوامع القومية بين مؤمنين بديانات وبمذاهب متعددة؟... وهل تعمل على لي ذراع الاسلام كدين جامع بين مواطنين من عناصر مختلفة؟
لماذا تعتبر محاولة الربط بين كل هذه الأحداث على أنها هروب الى نظرية المؤامرة التي لا وجود لها إلا في المخيلة العربية؟... لماذا لا ينظر المصري الى المشكلة المستجدة في أرض النيل من خلال ما يجري في السودان مثلاً؟ ولماذا لا ينظر اللبناني الى تجدد الانقسامات الطائفية والمذهبية من خلال ما يجري في العراق مثلاً؟ ولماذا لا يربط الجزائري بين تشدد الحركة الأمازيغية في مطالبها بما حصل عليه الأكراد في العراق مثلاً؟
هل هناك مايسترو واحد يحرّك اللاعبين على أوتار العزف الطائفي والمذهبي والعنصري في المنطقة؟ أم أن كل ما يجري هو محض صدفة؟... هل يكون سقوط الوحدة الوطنية في العراق، سقوط حجر الدومينو الأول الذي تتهاوى بعده بقية الأحجار الواحد تلو الآخر؟...
عندما يتعلق الأمر بخلاف مذهبي أو طائفي أو عنصري يقع في أي دولة عربية، فإن هذا الخلاف يخرج من كونه مشكلة أو قضية داخلية خاصة بتلك الدولة.
إن مجتمعات الدول العربية كلها هي مجتمعات متنوّعة ـ ولو بنسب متباينة ـ وبالتالي فإن أي اهتزاز يحدث في أي منها تتأثر به سائر المجتمعات في الدول العربية الأخرى. وبالتالي فإن العمل العربي مثلاً لمنع الوحدة الوطنية في العراق من الانهيار هو في الوقت نفسه دفاع عن الوحدة الوطنية في مصر... وفي لبنان. في سوريا. وفي الجزائر... إلخ... كذلك فإن صيانة الوحدة الوطنية في الجزائر أو المغرب هي في الوقت نفسه صيانة للوحدة الوطنية في العراق ومصر وسوريا ولبنان.
لا تنجو أي دولة عربية من تداعيات تفسخ أي دولة عربية. فإذا لم تجمع الوحدة الشعوب العربية بإرادتها، فإن المصيبة تجمعهم رغماً عنهم.
وإذا لم يكن الطموح المشترك في صناعة مستقبل قومي أفضل، وإذا لم يكن العدو المشترك بكل ما يجسده من خطر على المصير والوجود، كافيين لتجاوز الاختلافات الداخلية، فإن كابوس الانهيار الجماعي يشكل (أو يجب أن يشكل) الحد الأدنى لقاعدة الدفاع الذاتي عن النفس.
عجيب كيف أن الدول العربية تقف مكتوفة أمام تداعي العلاقات بين مكوّنات العناصر الوطنية التي تتألف منها مجتمعاتها دون أن تقوم بأي مبادرة لمعالجتها؟ والأعجب من ذلك هو أن هذه الدول تسير على غير وعي (ربما؟) نحو تدهور متواصل في علاقاتها المشتركة في الوقت الذي يسير العالم نحو تجمعات وتكتلات إقليمية وعابرة للمحيطات على قاعدة المصالح المشتركة. والأشد غرابة هو أن هذه الدول العربية تواجه انتكاسات خطيرة في علاقاتها مع دول الجوار غير العربية مثل إيران في الشرق، وتركيا في الشمال، وتشاد في الجنوب، ممما يزيد في قوة اندفاع التمزيق الداخلي الذي ينهش وحداتها الوطنية.
لا يمكن أن نصدق أن القيادات السياسية ومؤسسات المجتمع الأهلي في الدول العربية لا ترى هذه الصورة القاتمة، أو أنها لا تريد أن تراها. فالبرنامج التمزيقي يتواصل منذ سنوات. وكان عنواناً لاستراتيجية اسرائيل في الثمانينات من القرن الماضي. وقد تركت اسرائيل بصماتها واضحة في الفتن الطائفية والمذهبية والعنصرية التي تفجرت في السودان والعراق ولبنان...
ذلك أن اسرائيل تدرك أن أمنها الاستراتيجي لا يمكن تحقيقه على المدى البعيد لا بالتفوّق العسكري، ولا بالدعم الأميركي، ولا حتى بالقدرة النووية. ولكنها يمكن أن تحققه بتمزيق الدول العربية الى دويلات طائفية ومذهبية وعنصرية، يأكل بعضها لحم بعضها الآخر، وتستنزف قدراتها في صراعاتها الداخلية، وتمكن بالتالي إسرائيل ليس فقط من أن تنعم بالطمأنينة بل وبالهيمنة المعنوية والاقتصادية على المنطقة كلها تحت مظلة عسكرية رادعة!...
لا جديد في هذا القول. الجديد هو أن الدول العربية لا تصدقه أو أنها لا تريد أن تصدقه.