أنيس منصور
قرأت مقالا لأديب أردني هو حسن جلعاد عن الكاتب الأردني العائد إلى وطنه جثة في نعش سنة 1989، إنه غالب هلسا، وكيف انهم أوقفوا النعش يتأكدون من الاسم والميلاد ولم يحزن أحد على أنه الأديب الشيوعي الذي خرج حيا وعاد ميتا، فلم يستطع أن يعيش في بلده فلا اقل من أن يموت تحت ثراها، ووصفه الأستاذ جلعاد وصفا دقيقا وقال إنه يمثل (الفزع الوجودي).
وهذا التعبير بالفرنسية يسمونه (جران جنيول)، وهي صفة أطلقت على الفلسفة الوجودية كلها، لأنها في حالة فزع من الحياة وأعبائها. وأهم أعبائها حرية الاختيار بين أشياء كثيرة، ثم حمل المسؤولية عن كل ذلك!
وتذكرت ما حدث لأديبنا توفيق الحكيم هو أيضا. مات توفيق الحكيم فسرنا في جنازته وحملناه في طائرة عسكرية إلى الإسكندرية ورافقناه: د. أحمد هيكل وزير الثقافة في ذلك الوقت وأنا ونزلنا في الإسكندرية واتجهنا إلى المقابر، ولم يكن هناك إلا محافظ الإسكندرية وعدد من الموظفين، خمسة، ستة، عشرة، وكان استقبالا فاترا، كأن توفيق الحكيم قد أزعجهم، وهو وحده يتحمل هذا الغلط.
أما (الترابي) أو حارس المقابر فرفض دفن توفيق الحكيم، فليس معنا تصريح بالدفن، يموت الفنان وتعيش أفكاره، فالشخص يموت والشخصية لا تموت، وحاولنا ولكنه رفض، وتدخل المحافظ، وانشقت الأرض لتوفيق الحكيم!
وأذكر أنه جرى على أيام الخديو إسماعيل أن عثر عالم الآثار الفرنسي مرييش على مومياء الملك laquo;مري ـ أن ـ رعraquo; وطلب من العمال نقل المومياء إلى المتحف في القاهرة، والمومياء وجدوها بالقرب من الجيزة، وكان لا بد من نقلها الى محطة السكك الحديدية، فلم يجدوا إلا حمارا وضعوها عليه، وتدلت السيقان من ناحية والذرعان من الناحية الأخرى، ولفوها في أقمشة مهلهلة ولما رآها ناظر المحطة سأل: وما هذه؟ فقالوا: مومياء. ولم يكن قد سمع هذه الكلمة، وسمح لها بمكان في القطار، ونزلت المومياء من القطار مرة أخرى ورآها رجال الجمارك: ما هذه فقالوا: انها فسيخ ألا تلاحظ رائحتها الكريهة ودفعوا عن ذلك مبلغا صغيرا.
الفسيخ هو السمك المجفف الذي وضع في الملح طويلا، وأذكر أنه في مؤتمر الأدباء في بلودان بسورية حملنا معنا إلى أصدقائنا فسيخا وثمار المانجو، وفي الصباح كنت أتمشى فوجدت المانجو والفسيخ قد وضعت بمنتهى العناية إلى جوار الحائط، السبب: إنهم يكرهون رائحة الفسيخ ولا يحبون رائحة وطعم المانجو، وفي شم النسيم في مصر تتعلق رائحة الفسيخ في كل الشوارع والحدائق وهي فرصة سنوية لكي يطفش من القاهرة أو من مصر كلها أبناء سورية ولبنان والأجانب.
غلطة الكبار الذين ماتوا أنهم كبار انتهت أعمارهم ولكن لن يموتوا بينما غيرهم يموتون مهما طالت أعمارهم!
التعليقات