صبحي حديدي

ثمة أولئك الذين داعبهم الأمل في صحة الخبر الذي تردد يوم أمس، حول وجود اللواء المتقاعد علي دوبا في لندن، وما يفتحه ذلك من احتمالات انضمامه إلي، أو تشكيله ثنائية من أيّ نوع مع، نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام المتواجد في باريس. كان الأمل، في صيغته الإفتراضية بالطبع، يحدو الآملين في أنّ دوبا، الرئيس الأسبق لجهاز الإستخبارات العسكرية وضابط الأمن الأكثر سطوة وصلاحيات ونفوذاً وائتماناً من حافظ الأسد علي امتداد ثلاثة عقود من عمر الحركة التصحيحية ، سوف يتولي تسديد الضربة الثانية الموجعة لنظام بشار الأسد الآخذ في التداعي، والمترنّح أكثر فأكثر تحت ضربات من هنا وأخري من هناك.
من حقّ بعض خائبي الظنّ في صفوف أولئك الآملين أن يجدوا شيئاً من العزاء في الاحتمالات (القوية، حتي ساعة كتابة هذه السطور) التي تشير إلي خروج رئيس وزراء الدولة العبرية أرييل شارون من الحياة السياسية في إسرائيل، وكذلك من شؤون ومقدّرات وأقدار منطقة الشرق الأوسط بأسرها، تالياً واستطراداً. ذلك لأنّ شارون كان ـ ليس من باب المفارقة، حتي من وجهة نظر المَنَاطِقَة وأهل الحكمة الجاهزة واليقين مسبق الصنع ـ بين أشرس المدافعين عن بقاء نظام بشار الأسد في حالها الراهنة من جانب أوّل، وعدم المضيّ في الضغوط الامريكية ـ الفرنسية إلي مستوي يهدّد بانهيار ذلك النظام بنيوياً. ولتذهب إلي الجحيم، حسب شارون، تخرّصات القائلين بـ شرق أوسط جديد ديمقراطي، قد ينطوي علي سورية جديدة ديمقراطية لا تعيد فتح ملفات الجولان فحسب، بل تعيد تركيب الجبهة السورية شعباً وجيشاً ودولة ومؤسسات، بما يكفل استيلاد الأخطار الجدّية علي أمن واستقرار الدولة العبرية.
هذه عيّنة أولي عن مآلات الجدل المعقد الذي سوف يخلقه، أو لعلّه يخلقه منذ الآن، غياب شارون عن سياسة إسرائيل والشرق الأوسط، في ملفّات أبعد أثراً وأدهي عاقبة من مجرّد الدفاع الشرس عن النظام الحاكم اليوم في سورية. هذا، في نهاية المطاف، سلوك تكتيكي انتقالي عابر بالنسبة إلي الدولة العبرية، والأصل هو أنّ سورية الشعب والجيش هي في العمق الاستراتيجي المديد والبعيد بلد معادٍ في الجوهر، مثله في ذلك مثل الشعب والجيش في مصر والأردن. وهذا في المدي البعيد غير المنظور حالياً ربما، لا يلغي تمتّع الدولة العبرية بمزايا تلك التبدّلات الكبري التي طرأت علي خريطة ما يُسمّي بـ الأنظمة الراديكالية في العالم العربي: إخراج العراق من ساحة الصراع، تطويع ليبيا، إحياء المحور السعودي ـ المصري وتمتين وظائفه في الضغط أو التوسّط أو الإنابة الإقليمية علي نحو يضمن حسن تنفيذ أغراض السياسة الأمريكية...
وخروج شارون يمسّ الداخل العربي والإقليمي من حيث أنه يمسّ، أوّلاً، الداخل الإسرائيلي والمزاج الشعبيّ العامّ في الشارع اليهودي حول قضايا محورية مثل طبيعة الدولة العبرية وعلاقة الشدّ والجذب بين علمانيتها المعلنة ويهوديتها الطاغية، والمشهد الحزبي من حيث استقطابات اليمين والوسط واليسار والقوي الدينية، والسلام مع الفلسطينيين، والموقع الإقليمي للدولة العبرية في هذا الشرق الأوسط الجديد الذي يتغيّر كلّ يوم، وقضايا أخري متشعبة متضاربة قديمة أو طارئة. وليس غرض هذه السطور الغوص عميقاً في التعقيدات التي سيشهدها ذلك المزاج إذا تبيّن أنّ مشروع حزب كاديما سوف ينطفئ مع انطفاء المؤسس شارون، وجميع المعطيات تشير إلي هذا، وإنما الأهمّ ربما أن ينتظر المرء انطفاء كاديما بوصفه مشروع القوّة الثالثة إذا جاز القول: الحزب الذي لا يقف في الوسط تماماً بالمعني السياسي، ولكنه مع ذلك يستطيع استقطاب اليمين واليسار والوسط، ويضمّ في صفوفه رهط ساسة انتهازيين من كلّ حدب وصوب (من شمعون بيريس إلي إيهود أولمرت، مروراً بأمثال حاييم رامون وتزاهي هانيغبي)، كما يضمّ زعيماً للحزب مثل شارون، بدأ جنرالاً وسفاحاً ويمينياً متشدداً مدافعاً عن أيّ وكلّ استيطان في فلسطين المحتلة، ثم انقلب إلي رجل سلام في ناظر العديد من ساسة العالم وليس الرئيس الأمريكي جورج بوش وحده.
وفي القرار العميق من المزاج الشعبي الإسرائيلي استقرّ شارون، منذ صعوده المباغت في شباط (فبراير) 2001 وانتخابه رئيساً للوزراء علي حساب إيهود باراك، ضمن مفردات خطاب واضح مميّز كان النوع الوحيد الذي يمكن، أو ينبغي بالضرورة التاريخية والوقائع الآنية، أن يجري علي لسانه هو بالذات: إنه شارون دون سواه، الجثة الثقيلة التي لم يكن من اليسير أن تنفلت من ذلك الإرث الدموي الثقيل لمجازر صبرا وشاتيلا، والصقر الذي حطّ علي منصة الكنيست في إهاب رئيس الوزراء بعد نحو عقدين من تلك التوصية الشهيرة التي قضت بحرمانه من شغل وظيفة وزير الدفاع، الذي كان يلقّب بـ البلدوزر ، وينبغي اليوم أن يسير مثل غزال كما نصحته صحيفة نيويوك تايمز ! ولأنه شارون هذا بالذات، دون سواه، فقد كان من الطبيعي أن يضمّ قاموسه بعض معسول الكلام: تنازلات مؤلمة من أجل السلام، علي الجانبَين بالطبع: النأي عن درب الدماء المرير ، دون أن نعرف ما إذا كانت الرغبة هذه تسري علي الجانبين أيضاً، دماء الفلسطينيين مثل دماء الإسرائيليين، و مدّ اليد من أجل السلام .
ومعظم الحكومات التي شكّلها شارون منذ انتخابه كانت حكومات وحدة وطنية علي هذا النحو أو ذاك، لكنها للمفارقة لم تكن تبدأ بالبحث عن أمر بمقدار بحثها، ولنفسها أوّلاً، عن... الوحدة الوطنية! وفي هذا لم يكن المجال السياسي، ولا ذاك الدلالي القاموسي أيضاً، يسمح بالكثير من معسول الكلام، ولم يكن ثمة مناص من تسمية الداء بغية تحريض الشارع الإسرائيلي علي قبول الدواء: الوحدة الوطنية من أجل التغلّب علي صعوبات الوضع الأمني، والإنقسام في الأمة، والحقد الأعمي قال شارون. وأمّا من جهة عملية السلام ذاتها فإنّ الوضع الأمني، أو ذلك الوضع كما ساهمت في صناعته حكومة باراك نفسه، هو الذي نقل شارون من الظلّ إلي الأضواء الساطعة، ومن جريمة التنزّه الإستفزازي في باحة الحرم الشريف إلي حلم اعتلاء منبر الكنيست وإلقاء موعظة حول حاجة إسرائيل إلي وحدة القلوب .
وفي بعض شرائح الرأي العام الإسرائيلي ظلّت الأسئلة التالية عالقة معلّقة: ما الذي يستطيع شارون القيام به، أكثر وأفضل (أي: أشرس وأعتي) ممّا قام به باراك؟ كيف يمكن له أن يخبّ كالغزال، وهو الجثة الثقيلة المثقلة بمطالب ورغائب سبعة أحزاب، فوق أثقال الماضي الملطّخ بالدماء؟ هل يستطيع وزير الدفاع الجديد، صقر حزب العمل الأكبر بنيامين بن أليعازر، تحقيق معجزات أخري من نوع عجز عن تحقيقه وزير الدفاع/رئيس الوزراء السابق إيهود باراك؟ ضمن أيّ مفهوم جديد، جديد بمعني أنّ الدولة العبرية لم تجرّبه من قبل، تستطيع مفارز الـ تساحال وأد طبعة ثانية من انتفاضة كانت طبعتها الأولي قد أيقظت إسحق رابين من أضغاث أحلام إسرائيل الكبري ، فوضعته وجهاً لوجه أمام حقائق وجود وعيش وممات وانبعاث هذا الفلسطيني الذي يموت دون أن يموت؟ ومَن، في هذا الصدد، سيكون أشطر من رابين وإسحق شامير وبنيامين نتنياهو وباراك؟
غير أنّ الإنقسام في الأمّة ، ثانية الضرورات في بحث شارون عن الوحدة الوطنية، كان بيت القصيد الأهمّ كما برهنت السنوات، وهكذا ظلّ حتي اليوم. ولكن أيّ انقسام يقصد؟ ألم يكن إيهود باراك، الجنرال الذي دُحر في الإنتخابات وكان الأكثر أوسمة في تاريخ الدولة العبرية، هو الذي أعلن المحرّمات الكبري بعد دقائق علي إعلان فوزه علي نتنياهو في انتخابات 1999: القدس ستبقي موحّدة وتحت السيادة الإسرائيلية إلي الأبد، ولا عودة البتة إلي حدود 1967، ولا جيش غريباً غرب نهر الأردن، وغالبية المستوطنين في يهوذا والسامرة سوف تواصل الحياة في مستوطنات تحت السيادة الإسرائيلية؟
ألم تكن أطروحته القائلة بإبقاء المستوطنات تحت السيادة الإسرائيلية حتي في حال انسحاب جيش الإحتلال الإسرائيلي، بمثابة تكريس لصيغة البانتوستان؟ ألم يكرّسّ هذه الصيغة عملياً فور عودته من قمّة شرم الشيخ، وذلك باعتماد خطط الفصل من جانب واحد ، وعلي نحو عنصري من جانب أوّل، وهادف من جانب آخر إلي تدمير بُنية الأراضي الفلسطينية ونسف اتصالها ببعضها البعض؟ ألم يكن موقفه التفاوضي من مسألة القدس (وعلي عكس ما يُشاع من أنه كان مستعداً للذهاب أبعد من أيّ رئيس وزراء إسرائيلي قبله ) متناقضاً تماماً مع إعلان المباديء الذي وقّعه رابين، والذي يشترط إجراء مباحثات حول كامل مدينة القدس في سياق مفاوضات الحلّ النهائي؟ ألم يتصلّب أكثر فأكثر في ملفّات ليست أقلّ حساسية، مثل عودة اللاجئين وتفكيك المستوطنات؟
كيف أمكن للناخب الإسرائيلي أن يرسل هذا الجنرال بالذات إلي سلّة مهملات التاريخ، إذا لم يكن المجتمع الإسرائيلي واقعاً في قلب دوّامة مستديمة من الإنقسام والتشرذم والعصبية، وقلق الوجود مثل قلق العدم؟ وماذا كان شارون سيفعل، أكثر ممّا فعل سواه، لكي تستقرّ هذه الدوّامة؟ وما الذي كان سيقوله من منبر الكنيست فيبدو مختلفاً في الجوهر عمّا قاله باراك ساعة انتصاره الساحق علي بنيامين نتنياهو؟ وأيّة وحدة وطنية هذه التي كان يمكن أن يجلبها وزراء حركة شاس الدينية، المهيمنة علي حقائب الداخلية والصحة والرفاه الإجتماعي؟ وسوي التهوّر والهدم والتخريب، مـــاذا كان سيفعل وزير مثل أفيغادور ليبرمان، سبق له أن هدد بقصف الجوار الإقليمي، من إيران إلي سدّ أسوان؟
ثالثة الضرورات، أي ما أسماه شارون بـ الحقد الأعمي ، كان في الواقع يسري علي الجانبين: الفلسطيني الذي يحقد لأنه واقع في الجهة المستقبِلة من دائرة الإحتلال والقمع والحصار والاغتيال والبربرية، والإسرائيلي الذي يحقد لأنه في الجهة المرسِلة من الدائرة ذاتها. هذه ليست مناخات سلام كما قد يتفق العاقل مع المجنون، والمجنون مع المجنون أيضاً. في المقابل كانت الضمانات الأمريكية التي منحت الدولة العبرية الحقّ المطلق في تحديد حجم ونطاق عمليات إعادة الإنتشار القادمة، تنطوي في واقع الأمر علي منح الدولة العبرية حقوقاً إضافية في استيلاد عشرات النقاط العالقة التي لم تكن عالقة من قبل، والتي يمكن أن تنتهي موضوعياً إلي صرف النظر عن التعهدات السابق وتدشين دائرة مفرغة من الألعاب التفاوضية من جديد. إلي هذا المصير آلت عشرات الإتفاقيات الصغيرة والكبيرة منذ تدشين سيرورة اوسلو، وإليه انتهت، أو تنتهي اليوم، خارطة الطريق الأشهر... علي سبيل المثال الأحدث، لا الحصر!
هذه بعض تفاصيل المشهد الإسرائيلي الداخلي الذي يوشك شارون علي مغادرته، والضرورات الثلاث قائمة أشدّ احتداماً من ذي قبل، ومن غير الممكن أن تغيب عن برامج كاديما إذا بقي الحزب علي قيد الحياة طبعاً. لكنها في الآن ذاته ليست تفاصيل داخلية إسرائيلية صرفة، إذْ لعلّ مفاعيلها عابرة للحدود والأقاليم، وقد يكون معظمها ناشط لتوّه في القاهرة والرياض وبغداد، مثلما في تل أبيب والقدس ورام الله.
وفي دمشق أيضاً، غنيّ عن القول!


كاتب وباحث سوري يقيم في باريس