الثلاثاء:10. 01. 2006
د. محمد عابد الجابري
لم تكن الأريوسية التي تحدثنا عنها في المقال السابق، ولا الفرق الأخرى ممن ينتمون إلى ''الذين قالوا إنا نصارى''، هي وحدها التي عرفتها الجزيرة العربية قبل الدعوة المحمديةmiddot; لقد شهد شمال هذه الجزيرة وجنوبها ميادين لصراع ديني/ سياسي كان امتداداً مباشراً للحرب الضروس التي قامت بين الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية والتي حدثت آخر حلقاتها خلال الدعوة المحمدية (وقد أشار إليها القرآن مطلع سورة الروم)middot;
كان الشمال الغربي للجزيرة العربية (سوريا وما حولها)، إلى جانب مصر، تحت النفوذ البيزنطي (الروم) بينما كان الشمال الشرقي منها (العراق) تحت النفوذ الفارسيmiddot; أما الجنوب (اليمن) فقد كان خاضعاً أو متحالفاً، تارة مع هذا الجانب وتارة مع الجانب الآخرmiddot;
ولم يكن هذا الصراع السياسي العسكري ليترك الساحة الدينية والفكرية هادئةmiddot; لقد كان طبيعياً أن ينعكس أثره على الفكر المسيحي الذي قلنا إنه كان يعيش مشكلة تحديد طبيعة المسيح خصوصاً بعد أن أصبحت عقيدة التثليث الركن الرئيسي في ''قانون الإيمان'' الذي قررته الكنيسة الرسمية للإمبراطورية البيزنطيةmiddot; والنتيجة ''تحريم'' المخالفين واضطهادهم وإقصاؤهمmiddot;
وهكذا تحول شمال الجزيرة العربية، غربا وشرقا، إلى مسرح لنشاط الفرق الدينية والفلسفية التي تم إقصاؤها من المركز، فغدت تقوم بأنواع من النشاط ''التبشيري'' أو الفلسفي المعادي لعقيدة المركزmiddot; وكما أشار القرآن إلى الموحدين ''الذين قالوا إنا نصارى'' ممتدحا موقفهم، أشار كذلك إلى عقائد الفرق الأخرى، بما في ذلك المذهب الرسمي القائل بالتثليث والمذاهب الأخرى التي انشقت عنه ولكن دون أن تتبنى موقف عقيدة الموحدين الذين اعتبروا عيسى إنساناً وليس إلهاً ولا جزءا من الإله ولا مظهراً من مظاهر الألوهيةmiddot;
أما الكنيسة الرسمية التي جعلت التثليث عقيدة لها، فقد اتخذ القرآن منها موقفاً واضحاً في قوله تعالى:''لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ (middot;middot;middot;)middot; مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ'' (المائدة 73-76)middot; أما الفرق الأخرى التي انشقت عن الكنيسة الرسمية وحاولت تجاوز عقيدة التثليث بخطاب فلسفي، يطرح مشكلة العلاقة بين ما هو إلهي وما هو بشري، بين اللاهوت والناسوت، فقد انحصرت في اثنتين رئيسيتين: إحداهما حاولت تجاوز هذه المشكلة بالفصل بين الطبيعتين، البشرية والإلهية في شخص السيد المسيح، بينما حاولت الأخرى الجمع بينهما في كل واحدmiddot; أما الفرقة الأولى، فقد سُميت باسم مؤسسها نسطوريوس (النسطورية) الذي ظهر في أنطاكية شمال سوريا مؤكداً على اتحاد اللاهوت والناسوت في شخص المسيح، وعلى كون مريم هي والدة السيد المسيح الإنسان لا غير، ناكراً ومستنكراً اعتبارها ''أم الإله'' كما تنص على ذلك العقيدة الرسميةmiddot;middot; الخmiddot; لقيت آراؤه اهتماما كبيراً، فاستدعي إلى القسطنطينية وعين بطريركا لهاmiddot; ولكن رجال الدين في الكنيسة القبطية بالإسكندرية، وكانت أكثر تمسكا بعقيدة التثليث، شنوا عليه حملة قوية، كانت النتيجة أن رفض المجمع الكهنوتي المنعقد في أفسوس عام 431م العقيدة النسطورية وتقرر نفي صاحبها نسطوريوس إلى البتراء في بلاد العرب سنة 436 (وتوفي سنة 451م)middot; ومع ذلك، فقد انتشرت العقيدة النسطورية، في العراق وفارس حيث حصل تبنيها هناك، فاستقلت الكنيسة النسطورية عن الكنيسة البيزنطية لتصبح الكنيسة الشرقية (لإيران والعراق) في مقابل الكنيسة الغربية التي كان مقرها الأساسي في القسطنطينيةmiddot; ومع أن النسطورية تفصل مريم عن عقيدة التثليث مستنكرة اعتبارها أُمًّا للإله فإن احتفاظها بالأقنومين الآخرين (الأب والابن) قد جعلها، في نظر القرآن، في مستوى واحد مع الفرقة اليهودية التي قالت ''عزير ابن الله''، ولذلك جمع بينهما في قوله تعالى: ''وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ'' (المائدة 30)middot; وإلى جانب الفرقة النسطورية، وضدا على تعاليمها، قامت المدرسة اليعقوبية (نسبة إلى مؤسسها يعقوب البرادعي) لتؤكد القول بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح .monophysisme يقول أصحاب هذه الفرقة إن المسيح ''أقنوم واحد إلا أنه من جوهرينmiddot; وربما قالوا: طبيعة واحدة من طبيعتينmiddot; يشرح الشهرستاني مذهبهم كما يلي، قالوا: ''جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركيباً، كما تركبت النفس والبدن فصارا جوهراً واحداً، أقنوما واحداً، وهو إنسان كله وإله كلهmiddot; فيقال: الإنسان صار إلهاً ولا ينعكس فلا يقال: الإله صار إنساناً: كالفحمة تطرح في النار فيقال: صارت الفحمة ناراًmiddot; ولا يقال: صارت النار فحمة وهي في الحقيقة: لا نار مطلقة ولا فحمة مطلقة بل هي: جمرة''middot; ويقول الشهرستاني: إن هؤلاء هم المعنيون بقوله تعالى: ''لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ'' (المائدة 17)middot;
تعرضت اليعقوبية هي الأخرى للمنع والتحريم في المجمع الكهنوتي المنعقد في خلقيدونيا عام 451م وكان لها أتباع في الشام وما بين النهرين على عهد الإمبراطورية البيزنطيةmiddot; وقد التقى خلافهم مع الكنيسة الرسمية الكاثوليكية بمشاعرهم الوطنية، ضد المحتل البيزنطي، فأعلنوا الثورة عليه وتمسكوا بالعداء لهmiddot; ومن هنا نظروا إلى الفتح العربي- كما يقول بعض المؤرخين- على أنه تحرير لهم من تسلط البيزنطيين الذين حكموا بلادهمmiddot;
ولابد من الإشارة إلى أن هـذه الاضطـرابات والاختلافات على مستوى العقيدة المسيحية فـي العالم البيزنطي قد امتدت جنوبا إلى إثيوبيا (الحبشة) حوالى320مmiddot; فقد نجح رجلان من سوريا في تنصير ملكها عندما أنقذاه من الغرق في البحر الأحمرmiddot; وكمكافأة على ذلك اعتُمِد أحدهما من طرف بطريك الإسكندرية أثناس 373-298 Athanase كأول أسقف في إثيوبيا، فصارت بذلك كنيستها تابعة لكنيسة الإسكندريةmiddot; وحوالى 480م قدم إلى الحبشة تسعة رهبان عرفوا بـ''القديسين التسعة'' قاموا فيها بنشر المسيحية حاملين إليها الرهبنة والمذهب اليعقوبي . monophysisme
هذا الصراع العقدي كان يباطنه صراع سياسي كما قلنا، وقد ظهر ذلك واضحا في علاقة كل من الفرس والروم باليمنmiddot; ففي إطار هذا الصراع تدخل محاولة أبرهة، عامل ملك الحبشة على اليمن، الاستيلاء على مكة، المركز التجاري والديني الأهم في الجزيرة العربيةmiddot; لقد وقعت هذه الحملة في السنة المعروفة بـ''عام الفيل''، وهو العام الذي ولد فيه النبي عليه الصلاة والسلام (570 ميلادية)middot; ومع أن الحملة كانت ترمي أساسا إلى التخلص من تحكم مكة في التجارة الدولية بين اليمن والشام، بنقلها إلى يد اليمنيين، وبالتالي إلى الحبشة حليفة بيزنطة، فإن تحقيق هذا كان يتطلب القضاء عليها كمركز دينيmiddot; ومن هنا استهدفت حملة أبرهة هدم الكعبة وتحويل حج العرب إلى ''القليس'' (الكنيس) وهو معبد أقامه أبرهة في اليمنmiddot; سار أبرهة ومعه ''الفيل'' وعسكر خارج مكةmiddot; وتضيف مصادرنا أن قريشا قررت، بعد التداول في الأمر، مفاوضته فأرسلت إليه وفدا برئاسة أحد كبرائها يومئذ، عبدالمطلب جد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فعرضوا عليه ما يشبه الجزيةmiddot; ولما لم يقبل منهم ذلك خرج أهل مكة إلى الجبال واحتموا بهاmiddot; وحدث حادث أفشل حملة أبرهة وجنده، ''فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلِكون بكلِّ مَهْلِك''middot;
روى ابن إسحاق ''أن أولَ ما رُؤيت الحصبةُ والجُدَرِي بأرض العرب ذلك العام''middot; وعن هذه الحملة وفشلها تتحدث سورة ''الفيل''middot; يقول تعالى:
أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (أفسد كيدهم: هدم الكعبة)، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (متتابعة تأتيهم من كل جهة)، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (من طينmiddot; قيل: إذا أصاب أحدهم خرج به الجُدَريّ)، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (كتبن أكلته الدواب فصار روثا تدوسه بأقدامها) (1-5)middot;
يتضح مما تقدم أن الجزيرة العربية، شمالاً وجنوبا، غربا وشرقا، كانت قبل الدعوة المحمدية فضاء لحركات دينية وفلسفية معارضة لعقيدة المركز، العقيدة الرسمية، التي أقرتها المجامع الكهنوتيةmiddot; وكانت هذه الحركات في نظر القيمين على تلك العقيدة حركات هرطقية، مبتدعة، خارجة عن الدين الرسميmiddot;
ومع ذلك فلم تكن هـذه الحركات والتيارات الفكرية الفلسفية تقع خارج قضية ''التثليث''middot; وهذا ما كان يفصل بينها وبين التوجهات التوحيدية الموازية لها، والتي كانت تشكل مظهرا من مظاهر ما أطلق عليه كتاب السيرة النبوية ''دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم''، كما سنرى في المقال القادمmiddot;
التعليقات