الأربعاء:11. 01. 2006
د. خالد الدخيل
أبرز تداعيات انشقاق نائب الرئيس السوري السابق، عبدالحليم خدام، كان الحركة الدبلوماسية النشطة في الأيام الأخيرة بين كل من الرياض ودمشق وشرم الشيخ وباريسmiddot; بدأ الانشقاق بحديث لمحطة ''العربية'' أكد فيه خدام تعرض الحريري للتهديد من قبل الرئيس بشار الأسد، وانتهى إلى إعلان نيته العمل على إسقاط النظام في دمشقmiddot; على خلفية ذلك طلبت اللجنة الدولية للتحقيق في اغتيال الحريري لقاء الرئيس الأسد ووزير خارجيته، فاروق الشرعmiddot; وافقت دمشق على استجواب وزير الخارجية، لكنها ترددت في موضوع لقاء الرئيس بشار انطلاقاً من مبدأ السيادةmiddot;
حاولت السعودية ومصر إيجاد مخرج من خلال تدخل فرنسا لتجاوز مقابلة اللجنة مع الرئيس السوريmiddot; لكن يبدو أن مساعي الرئيس المصري في باريس فشلتmiddot; هنا ذهب وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل، إلى دمشق ليأتي بعدها الرئيس السوري إلى جدة ويعقد قمة مع الملك عبدالله بن عبدالعزيزmiddot; بعد ذلك توجه الأسد إلى مصرmiddot; لم ترشح عن كل هذه التحركات أية معلومات عما تم التوصل إليهmiddot; لكن يبدو أنه اتفق على فكرة طرف ثالث من قبل اللجنة الدولية يسلم أسئلة اللجنة للرئيس، ويستلم إجاباته عليها مكتوبةmiddot; طبعا المشكلة لا تنتهي هناmiddot; بعد التحقيقات والمقابلات تبقى إمكانية الاشتباه بأحد قادة النظام السوري، وإمكانية توقيفهmiddot; هل تم التفاهم على هذا؟ ربما تم التواضع على حل ليبي لأزمة التحقيقmiddot;
في موازاة ذلك، استمرت الأزمة الحكومية في لبنان في التفاقم بما يهدد بانفراط عقد الحكومة، والزج بلبنان في أزمة سياسية خانقة تهدد استقراره الأهليmiddot; في هذه الأجواء، وانطلاقا من قناعته بأن ما يعصف بلبنان منشؤه في دمشق، استبق وليد جنبلاط، الزعيم الدرزي عبدالحليم خدام في الدعوة إلى إسقاط النظام السوري، وإلى ضرورة أن تستعين المعارضة السورية بقوى خارجية لتحقيق ذلكmiddot; في السياق نفسه أخذ جنبلاط، ولأيام متتالية الآن، في التصعيد مع ''حزب الله''، أقرب وأقوى حلفاء سوريا في لبنان، ووضعه أمام تحدي الخيار بين إما ''الولاء للبنان'' أو ''الولاء لسوريا وإيران''middot;
هنا تتداخل القضايا التي تعصف بسوريا ولبنان: التحقيق الدولي في اغتيال الحريري، وشبهة التورط السوري، وكلتاهما تهدد استقرار النظام السوريmiddot; القضية الثالثة، أو الاستقلال اللبناني، مطلب التف حوله الكثير من اللبنانيينmiddot; المفارقة أن هذه قضية تهدد استقرار لبنانmiddot; الجديد في هذه القضية الآن أن السُنة والدروز انضموا إلى المسيحيين في طلب الاستقلال عن سورياmiddot; والسبب اغتيال الحريري، وقناعة الكثير من اللبنانيين بأن سوريا وراء ذلكmiddot; بعبارة أخرى، سوريا، والسياسة السورية في لبنان، هي العامل الأهم وراء عودة مطلب الاستقلال اللبناني بالصيغة الحادة والعدوانية الموجهة إلى النظام السوري هذه الأيامmiddot;
كل تلك التداعيات التي ترتبت على انشقاق خدام هي بدورها امتداد لتداعيات اغتيال الحريريmiddot; وهذا الأخير حصل على خلفية التمديدmiddot; التداعيات تتوالد مع الوقت، ومع استمرار مراوحة التحقيقmiddot; تعتقد دمشق أن مراوحة التحقيق يصب في مصلحتهاmiddot; وهذا غير صحيحmiddot; المأزق الذي دخلته العلاقات اللبنانية- السورية يعود إلى التمديد القسري الذي فرضته دمشق على بيروت، وتداخله مع اغتيال الحريريmiddot; بدلاً من محاولة إبقاء التحقيق محصوراً بين طرفي متصل المراوحة، يحسن بدمشق أن تقدم مبادرة، أو بدائل للشكوى المستمرة من التسييسmiddot;
هناك تداعيات أخرىmiddot; منها سماح فرنسا لخدام بإعلان معارضته للنظام، وسعيه للإطاحة به من باريسmiddot; لاحظ أن باريس تفعل ذلك في الوقت الذي تعمل فيه مع السعودية ومصر لإيجاد مخرجmiddot; هناك أيضا إمكانية التعاون بين خدام و''الإخوان المسلمين'' في سورياmiddot; أسوأ تداعيات الأزمة هو تحويل النظام السياسي السوري، وما ينسب إليه من استبداد وفساد إلى موضوع عام يتم تداوله من قبل الجميعmiddot; هذا لا يتم خارج سوريا فقط، بل الأرجح أنه يتم داخلها أيضاmiddot; الفرق أن الحديث حول هذا الموضوع يتم خارج سوريا بشكل علني في الصحف والفضائيات والمجالس والمنتدياتmiddot; أما داخل سوريا فإنه يتم بشكل سريmiddot; وفي كل الأحوال هو موضوع الساعة داخل سوريا وخارجهاmiddot; استمرار هذا يزيد من ضعف النظامmiddot;
استمرار تعثر التحقيق الدولي، والخلاف بين الحكومة السورية ولجنة التحقيق الدولية يضر بسمعة سوريا، ويتسبب في التآكل المستمر لشرعيتها الإقليمية والدوليةmiddot; الحكومة السورية لا تستطيع أن تستجيب لكل مطالب اللجنة لاعتبارات تتعلق أحياناً بالسيادة، كما في طلب مقابلة رئيس الدولة، ولاعتبارات تتعلق أحياناً أخرى بالحدود بين ما هو قانوني وما هو سياسيmiddot; وفي كل الأحوال لا تستطيع الحكومة السورية أن تحسم الموضوع في هذا الاتجاه أو ذاكmiddot; تعتمد على السعودية ومصر لإيجاد مخرجmiddot; بقية الدول العربية تبدو خارج الصورةmiddot; المشهد الآن: ممانعة في سوريا، محاولات للحلحة من قبل الرياض والقاهرة، وتأزم يتصاعد في لبنانmiddot; في كل ذلك تبدو دمشق كمن يحاول الدفع بلبنان، من خلال حلفائها هناك، نحو الانفجار لتخفيف الضغوط عليها، ولحرف انتباه المجتمع الدولي إلى الوضع في لبنان، بعيداً عن التحقيق في اغتيال الحريريmiddot;
يتبدى مأزق دمشق من معطيات عدة: أن عزلتها تزداد يوما بعد آخر، وأن السعودية ومصر لا تستطيعان المساعدة خارج حدود قرارات مجلس الأمنmiddot; الأسوأ أن سوريا لا تريد أن تقوم هي بتحقيق مهني غير مسيس، ويمكن أن يكون بديلا للتحقيق الدوليmiddot; بالنسبة لسوريا، النتيجة الوحيدة التي تثبت نزاهة التحقيق الدولي ومهنيته يجب أن تكو براءتها الكاملة وبشكل مسبق من اغتيال الحريريmiddot; بعبارة أخرى، تريد سوريا أن تكون مهمة التحقيق الدولي إثبات براءتها وليس العكسmiddot; وهذا لا يستقيم، لأن مهمة التحقيق، أي تحقيق، هي التركيز على المتهم وليس البريءmiddot; إذا كانت الفرضية الأولى حسب المعطيات الأولية للجريمة هي براءة سوريا، وهي قد تكون بريئة بالفعل، فإن وجهة التحقيق يجب أن تكون في اتجاه آخر، أو في اتجاه من يشتبه في تورطه في الجريمةmiddot; السؤال: ما الذي فعلته سوريا لتغيير وجهة التحقيق إلى حيث يكون المشتبه به حقا، وليس سوريا؟
المجادلة الوحيدة التي يقدمها النظام السوري لإثبات براءته أن عملية الاغتيال لا تخدم مصلحته على الإطلاقmiddot; وهذه مجادلة عقيمة لأنها أولا غير مسنودة بوقائع وأحداث وأدلة مترابطة، وذات علاقة بالجريمة موضوع التحقيقmiddot; وثانيا أنها لا تعدو عن كونها مجادلة منطقية مجردة من أية علاقة بالواقع الذي حصلت في إطاره الجريمةmiddot; والأسوأ من ذلك أنها مجادلة تستند إلى فرضية فاسدة، تقول بأن النظام السوري هنا (أو أي نظام سياسي) لا يتصرف في كل شؤونه إلا بما يحقق مصلحته، وأنه يملك القدرة على المعرفة المسبقة لما يخدم هذه المصلحة، وبالتالي يتبعه، وما يتعارض مع هذه المصلحة فيجتنبهmiddot; وبما أن اغتيال الحريري يضر بمصلحة النظام السوري، فإنه لا يمكن أن يكون متورط فيهmiddot; هذا يعني أن النظام السياسي يشبه الآلهة التي تلم بمعرفة الأشياء، وتملك القدرة على استكناه نتائج الأمور قبل وقوعهاmiddot; وهذا غير معقولmiddot; هذا من الناحية المنطقيةmiddot; أما من الناحية التاريخية أو الواقعية، فيمكن بسهولة أن نسرد الكثير من الأحداث التي دشنها أو شارك فيها النظام السوري، وغيره من الأنظمة العربية، وكلها أسفرت عن نتائج بعضها ذو طبيعة كارثية على الأنظمة والشعوب العربية من دون استثناءmiddot; من ذلك التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود، وهو تمديد فرضته سوريا على لبنان، وترتب عليه خسارتها لهذا البلد، واتهامها بجريمة اغتيال الحريري التي وقعت بعد ذلكmiddot; سوريا لا تنكر مسؤوليتها عن التمديدmiddot; هناك أيضاً طبيعة العلاقة التي أقامتها سوريا مع لبنان طوال فترة هيمنتها عليه، وهي علاقة تبين أنها كارثيةmiddot; الغزو العراقي للكويت، وإلغاء نتائج الانتخابات الجزائرية عام ،1992 والحرب العراقية الإيرانية، والحرب الأهلية اللبنانيةmiddot;middot;middot;الخmiddot; هذه وغيرها كثير أحداث أقدمت عليها الدول العربية، وجلبت عليها نتائج كارثيةmiddot; هل كانت هذه الأنظمة غير مسؤولة عن تلك الأحداث لمجرد أن نتائجها كانت كذلكmiddot; هذا فيه تبرئة مجانية للأنظمةmiddot; النتائج الكارثية تنم عن طبيعة الأنظمة وليس العكسmiddot; ولماذا نذهب بعيداmiddot; الاستبداد والفساد في سوريا يخدم من؟ هل هو في مصلحة النظام؟ أم في مصلحة سوريا؟ هذا يهدد مستقبل النظام ومستقبل سورياmiddot; ومع ذلك لا يفكر النظام، حتى الآن على الأقل، بالتخلي عن الاستبدادmiddot; من المسؤول عن ذلك؟ حسب منطق المصلحة، النظام السوري غير مسؤول عن طبيعته الاستبداديةmiddot;
التعليقات