خالد المطوع
من الملاحظ في المرحلة الحالية إغفال أغلب الكتابات عن تناول الشأن العراقي الداخلي من منظور إقليمي، إذ تأتي أهمية البحث في مثل هذا النطاق على مواكبة ما يشير إليه الواقع السياسي العراقي من غلبة نفوذ الإقليم سلطة وصلاحية على نفوذ الحكومة المركزية، وغلبة نفوذ الطائفية والعرقية الإثنية على صيغة مشروع الوطنية والمواطنة، وهو الذي جاء معززاً ومشرعناً بالاستفتاء المشبوه على الدستور العراقي كما أشرنا إلى تلك النقطة في العديد من مقالاتنا السابقة.
وللأسف قد يجد المتتبع لتفاعلات وتغطيات الوسائل الإعلامية لشؤون الأقاليم العراقية المتعددة، أن مثل هذه التغطيات والتفاعلات خصوصاً تلك التي تجري في الجنوب والشمال محكومة بسلطة الرواية الإعلامية الرسمية من حكومات الأقاليم أولاً فالحكومة المركزية ثانياً!
لذا فإنه لا يسع الصحافي أو الكاتب أو الباحث إلا أن يجاهد ويبذل أقصى ما في وسعه لجمع خيوط التسريبات الخبرية حول حقيقة الأوضاع القائمة داخل الأقاليم العراقية، عسى أن يتمكن من استجلاء صورة محددة الملامح ومفهومة.
وللأسف فإن مثل هذه الصورة حول الأوضاع الداخلية للأقاليم العراقية، ستكون أكثر سوداوية ودموية وظلاماً، وذلك في ظل هيمنة حكم استبدادي تتفرد به عائلات وأحزاب محددة تحتكر مختلف السلطات في هذه الأقاليم، ومن بينها عائلة البرزاني في الإقليم الشمالي الكوردستاني، أما في الجنوب فستجده في قبضة عائلة الحكيم ممثلة في زعامة هذه العائلة عبد العزيز الحكيم، بالإضافة إلى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة وغيرهم بما فيهم الرفاق الباسدرانيون والباسيجيون، بما فيهم من ضباط الاتصالات والمخابرات الإيرانية ومن أتى من خلال الطرود الإيرانية والدبابات الأمريكية على حد سواء. ويسود لدى العديد من الأوساط العالمية المختلفة الترويج لدعاية مغرضة حول أن الاستقرار الأمني والاستراتيجي يسود في الشمال والجنوب في حين أنه ينتفى في الوسط العراقي وبشكل رئيسي في المناطق التي يتركز فيها أهل السنة والجماعة، إلا أن هذه الأوساط للأسف تنكر الأخبار عن تلك الفظائع الدموية الرهيبة المنسية والمخفية والتي تدور في هذه الأقاليم المحكومة بأنظمة تقليدية مستبدة هي في الواقع جاءت كصورة مصغرة من النظام الصدامي السابق بكل مساوئه، كما أنها ساهمت التجربة الديمقراطية ''الموعودة'' في تفخيخها وتفجيرها، لعدم مراعاة وكلائها ومروجيها للهوية السيكولوجية والثقافية والقيمية للشعب المستهدف بهذه الديمقراطية، والتي لم ولن يجني منها إلا تدميراً لوحدته الوطنية ومساساً بثوابته الوطنية والقومية لصالح نعرات طائفية وفئوية ومصالح شخصية وضيعة. ففي حين تجري العمليات السياسية والرسائل القصيرة المتبادلة بين عبدالعزيز الحكيم والحكومة المركزية في بغداد للاستعداد في الجنوب لتكوين إقليم فيدرالي جديد، هو ليس في الواقع إلا نسخة مصغرة من الجارة الكبرى إيران، تجري في الوقت ذاته بل ومنذ فترة سابقة لطرح هذه الدعوة الاستعدادات والبروفات لتطهير منطقة الجنوب العراقي من أقلياتها الكبرى بمن فيها الأقلية السنية والتي تم تقدير نسبتهم العددية بناء على مشاركتهم في مختلف الفعاليات السياسية إلى حوالي ٠٤ ـ ٥٤ بالمائة من مجموع سكان البصرة فقط، حسبما جاء من مكتب المفوضية العليا للانتخابات، ولم يكن الاستهداف الطائفي بمعزل عن الاستهداف الفكري الذي قامت فيه كتائب وميليشيات السلطات الإقليمية بحق العديد من الكتاب والمثقفين والنخب التي تختلف فكراً ورأياً مع ما هو مطروح ومفروض من قبل من بيده الأمر والنهر والمكر في '' إقليم الجنوب''، فجرت عملية تصفية منظمة للعديد من المثقفين والمفكرين الذين مارسوا حقهم ''المفترض'' في حرية التعبير والتفكير والاختلاف والنقد لما هو سائد فلاقوا مصيرهم من اختطاف فتعذيب وتنكيل فتقطيع للأشلاء ورميها على الطرق، وعلى رأسهم الكاتب الشهيد شمس الدين الموسوي الذي نالت منه قوى الموت وعصابات فيلق ''بدر'' نظراً لما أبداه من مواقف فكرية جريئة ومختلفة، وجد فيها حكام الإقليم تهديداً لمصالحهم السياسية والشخصية، بل إن العديد من الكتاب والناشطين العراقيين المخالفين للنهج السائد لحكام الإقليم واجهوا المزيد من رسائل وخطابات التهديد التي تتوعدهم بالويل والثبور!
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إنه امتد إلى النجف الأشرف حينما تم اغتيال رجل الدين الفاضل الشيخ علي النجفي في منزله، وذلك من قبل عناصر فيلق ''بدر'' نظراً لما قدمه خلال خطبة الجمعة من انتقادات جريئة ومشروعة لتقاعس بعض المرجعيات الشيعية ورجال الدين العراقيين عن مقاومة الاحتلال الأميركي فنال جزاءه نتيجة خروجه عن المسار السياسي والقيمي والفكري المستقيم الذي رسمه حكام الإقليم الفيدرالي!
وكذلك تم اعتقال الشيخ الشيخ الواسطي وهو إمام لمسجد في مدينة الكوت والتنكيل به أمام مرأى المصلين نظراً لما قاله من انتقاد للاحتلال وللسلطات العميلة والأوضاع السيئة للمدينة!
وقبل فترة قصيرة كانت الجريمة الأكبر في مداهمة منزل سماحة المرجع السيد آية الله أحمد البغدادي في النجف الأشرف بسبب انتقاداته اللاذعة والصريحة لسلطات الاحتلال والسلطات المحلية العميلة!
وقد تمت تصفية واستهداف العديد من الكوادر والعلماء العراقيين من أهل الجنوب من قبل الميليشيا المحلية بالتعاون مع المخابرات الإيرانية، لكونهم من ''مخلفات النظام البائد'' مع سيادة أجواء القمع العدواني للحريات الشخصية، كالهجوم التخريبي المنظم على محلات بيع الآلات الموسيقية والمطاعم ودور السينما ومحلات بيع الخمور وغيرها!
أما ومع الاتجاه شمالاً صوب إقليم ''كوردستان''، فالأمر ليس بأقل عتمة ودموية لدى حظوة استبداد عائلة برزاني وغيره مما هو موجود لدى الحلفاء في إقليم ''جنوبستان'' أو ''حكيمستان'' أو ''جمهوري عراقي إسلامي''، فجرائم الاغتيال والقمع بحق العديد من كتاب الرأي والمثقفين والمفكرين لا تزال تتواصل، فقد تم اغتيال المناضل الكوردي البروفيسور عمر ميران وذلك نظراً لمواقفه السياسية والفكرية المخالفة لتوجهات أولي الأمر والنهر والمكر في إقليم ''كوردستان''، كما تم الحكم بسجن الكاتب الدكتور كمال سيد قادر لمدة ثلاثين عاماً بسبب آرائه الناقدة للأوضاع الحالية في كوردستان الخاضع لسلطة وإمرة وإرادة الأخوة الأعداء بارزاني/ طالباني وذلك بعدما تم اعتقاله من قبل جهاز استخبارات الحزب الديموقراطي الكردستاني (البارتيزان)، مما أثار ضجة كبيرة نظراً لكون الدكتور كمال سيد قادر نمساوي الجنسية، وهو ما أدى إلى تدخلات عاجلة من أعلى المستويات من قبل النمسا في قضيته، إلا أن مثل هذه التدخلات لم تمنع التعذيب الشديد وسوء المعاملة التي تعرض لها هذا الكاتب ليتم الحكم الجائر ضده لتجرؤه على المساس بالثوابت الكردية ونقدها ممثلة في الحكم القمعي الاستفرادي والاستبدادي لحزبي وعائلتي برزاني وطالباني بحق الشعب والقضية الكردية!
وبإمكان القارئ الكريم أن يضيف إلى أدنى عمليات الانحطاط الاستبدادي المتمثلة في استهداف أصحاب الرأي والفكر المخالف، استمرار عمليات التكريد والتهجير للأقليات الأخرى من إقليم كردستان بمن فيهم العرب والتركمان وغيرهم، إلى جانب عمليات التمييز المجحفة بحق تلك الأقليات والفئات ومن بينهم الجماعة الأيزدية العريقة والتي اشتكت مراراً وتكراراً من تعمد السلطات الكردية الحاكمة تهميشها وتحجيم مشاركتها في العملية السياسية القائمة، بما فيها الانتخابات الديمقراطية ''المزعومة'' مثلما تشتكي العديد من القوى العراقية الوطنية والأقليات الكبرى في الجنوب من مضايقات وتهديدات السلطة الحاكمة إقليمياً لهم من أجل تحجيم وتهميش مشاركتهم في العملية السياسية، وهو ما يثير بدوره العديد من المخاوف والقلق حول مستقبل الأمن والاستقرار في المنطقة نتيجة سيادة أجواء القمع والمصادرة وفي مواجهتها الاحتجاج والتمرد المشروع!
وإنه لينتابك العجب العجاب حينما ترى إصرار هؤلاء الانفصاليون/ الانشقاقيون على تطبيق العدالة الفيدرالية على مستوى العراق ليكون الشعب العربي في العراق جزءاً من الأمة العربية، في حين أنهم عينهم (حكماء الأقانيم / الأقاليم) يحاربون هذا الجن الفيدرالي بشتى أنواع التعاويذ والتمائم والأدعية السياسية خشية الإصابة بمسه فيكون على سبيل المثال الشعب الكردي في كوردستان جزءاً من الأمة الكردية، وبالمثل الطائفة الشيعية في إقليم ''جنوبستان''.
كما ينتابك العجب مرة أخرى أمام مشهد دولة تدعي الديمقراطية في حين أنها تتكون من أقاليم كبرى ورئيسية تسودها أبشع نماذج الاستبداد والاستعباد الفكري والطائفي والعرقي من قبل سلطات هذه الأقاليم!
إلا أنه وفيما يبدو أن عبدالعزيز الحكيم و باقر بن صولاغ وإبراهيم جعفري الأشيقر وغيرهم من أولي الأمر والنهر والمكر في جنوبستان مثلهم كمثل حلفائهم في كردستان، لا يحق لأفراد الشعب العراقي العراقي العظيم في هذين الإقليمين أن يشذا عن مخططات وأجندة وأفكار واستراتيجيات حكام الأقاليم المقدسة!
فيبقى السؤال هو هل من حق الحكيم وبرزاني وطالباني وأمثالهم الكثر أن يصادروا قضايا ومصائر الشعب العراقي، ويتحدثوا باسمه في شتى المحافل الدولية لصالح أجندتهم السياسية والمصلحية الخاصة والعارية في الهواء الطلق!
هل يحسب الحكيم وغيره جنوب العراق ضيعة أو عزبة له ولأمثاله يحق له التصرف فيه مثلما يشاء البعض في طهران وقم (طالباني وبارزاني في الصدد ذاته)؟
أليس الحكيم وبرزاني وغيرهم بسلوكهم السياسي والقيمي الحالي هم الأجدر من دون غيرهم، بأن يكونوا الورثة الشرعيين لإرث الاستبداد الصدامي التليد، أو بالأحرى من أزلام ومخلفات النظام البائد (انصفوهم يا جماعة الخير)؟
أية مهزلة هذه؟
* كاتب بحريني
التعليقات