الخميس:12. 01. 2006

د. أحمد عبد الملك


ارتبط مفهوم المشاكسة في الذاكرة الرسمية، بصورة المواطن الذي يقول الحق، ولا يخاف فيه لومة لائم! كما ارتبط المفهوم برؤى المستنيرين الذين نالوا قسطاً من علمٍ وفصاحة، وحُسن تعبير عما في دواخلهم، ما يجعل الآخرين أقل درجة أمامهم، ليس في المال والقوة، بل في الحضور والحجة ورجاحة العقل!
ولقد صنّفت الحكومات المشاكسين إلى درجات، فهنالك مشاكس للاستهلاك المحلي، ومشاكس للاستهلاك الخارجي، ومشاكس لا يتم التجسس على مكالماته، ومشاكس مُراقبَ ليل نهار، ومشاكس تُفتح له الأبواب والخزائن، ومشاكس يُحرم من أداء عمله، ويُهدد في قطع رغيف عياله! عندنا في الخليج لا يقتلون المشاكس بسيارة مفخخة أو قنبلة في طائرة، أبداًmiddot;middot;middot; بل إنهم يدعونه يموت تدريجياً وبشكل بطيء دون أن يتدخلوا في شيء سوى بإهماله، وعدم ترقيته، وتوظيف الصبية الصغار الذين درّسهم في وظائف راقية ويعهدون لهم بمهمات خطرة -مثل الإعلام والتدريس- كل ذلك يصبح كالسم الذي يتخلل أعضاء جسم المشاكس حتى يموتmiddot;
لكن المشاكس اللبناني يختلف! فلغة القتل أو الإعدام يمكن أن يقررها خفافيش الظلام في أية لحظةmiddot;middot;middot; وكان آخر المشاكسين الأحرار جبران تويني، الذي اغتالته يد الكراهية قبل أيام وهو يقوم بدوره الوطني في النهوض ببلاده نحو الغد الأجمل مثلما كان يفعل سابقه في البناء رفيق الحريري، والذي طالته يدُ الظلم، وأحقاد الهدم، والظلاميون الذين لا يريدون خيراً بلبنان وأهلهmiddot;
ومثل جميع اللبنانيين الشرفاء، فلقد جمع تويني الشهيد كل لبنان حول جنازته، حتى الذين يختلفون معه في الرؤى، أو يعارضون فصاحة المشاكسة التي اشتهر بها، كانوا هناك في الموكب الجنائزيmiddot;
وإذا كان التحقيق سوف يأخذ مجراه في الحادث الأليم، فإن السؤال يبقى: إلى متى يظل لبنان الذي عُرف بانفتاحه ومناخاته الحرة، يتعرض إلى حوار الموتmiddot;middot;middot; ويعاني أيادي الظلام الخشنة، ولمصلحة من يتم ترميل النساء اللبنانيات الواقفات خلف أشجار السنديان من أجل لبنان الغد؟! ولماذا يتم زرع الفتنة بين أبناء البلد الواحدmiddot;middot;middot; بل الأوحد عربياً في الممارسة الديمقراطية والانفتاح والحرية؟! هل لأن الآخرين لا يريدون لبناناً حراً، بل بلداً تابعاً لمليشيات متفرقة أو جيران يمارسون وصايتهم عليه؟ هل يريدون للبنان أن يكون بوابة العبور للعدو الصهيوني، وبالتالي إعادة رسم خريطة جديدة لعلاقات لبنان مع جيرانه؟ ثم لماذا لا يتحاورون مع تويني والحريري وقصير؟ إنهم بشر ويمكن محاورتهم في النهار بدلاً من التآمر عليهم في ظلام الليلmiddot; ثم ما هو هذا الفكر العابث الذي يزرع الحقد ولا يؤمن إلا بالتصفية الجسدية ضد خصومه؟! ولماذا يظل هذا الفكر بُعبعاً يرهب كل الشرفاء الذين يبنون ولا يهدمونmiddot;middot;middot; يصرّحون ولا يتآمرون أو يخونون؟! ولماذا نحن -وفي قمة حزننا على شهداء لبنان- لا نطالب بقوة دولية -حتى لو كانت من صنع الشيطان- لبتر هذا الفكر من وطننا العربي وحرقه بالزيت والنار، حتى ينبت من جديد مجتمع جديد يؤمن بالحوار ويتعاطى مع المتحضرين بلغة الحضارة لا بلهجة الغوغائية وقطاع الطرق؟!
يأتي صوت الأب المناضل المفجوع بابنه، صوت غسان تويني -بروح مسالمة ومحبة للبنان- قائلاً: لا أدعو إلى انتقام أو حقد بل إلى خدمة لبنان! كان هذا الرد الحضاري من الأب العجوز المكلوم رسالة للمجرمين الذين فجروا جبران تويني وهو لا زال على طريق النضال لتحرير بلده من فكر العبث والفساد وأيادي الظلامmiddot; هذه الرسالة هي أبلغ رد على أن الذين ينجبون أبناء ويربونهم تربية حسنة، لا يشذ أبناؤهم عن طوق المحبة والوطنية، ذلك أن أصل الشجرة طيبmiddot;middot;middot; وليس مثل الأعشاب الشرسة التي تحاصر الورودmiddot;
نحن الخليجيين نشاهد جبران تويني على البعد كلما مررنا أمام مبنى ''النهار'' في وسط المدينة الجميلة، ونقرأ افتتاحيات النهار رغم مشاكستهاmiddot;middot;middot; وندرك أن قدر المشاكسين اللبنانيين يختلف عن أقدار المشاكسين الخلجيين! والمقال الأخير لجبران تويني، كان يحتاج إلى رد بليغ وداحض ضد فكر جبران تويني، لا لسيارة مفخخة! المقال الأخير فيه حقائق، وشعور مواطن يريد أن يكون بلده حُراً مثل جميع بلدان العالم! وما الغرابة في أن يطالب مواطن بحرية بلاده! ولماذا لا يفخر كل العرب بحصول لبنان على كامل استقلاله وسيادته؟ وما العيب أو الجرم في ذلك؟
ولماذا تكون (مزارع شبعا) مسمار جُحا! وما الجريمة في أن يطالب تويني بوثائق تثبت لبنانية هذه المزارع، كي يتولى لبنان تحريرها من العدو بطريقته الخاصة؟
ثم لماذا المراهنة الخاسرة على ربط المسارات وحرق المراحل واللعب بالألفاظ والأعصاب، فيما يتعلق بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي احتُلت عام 1967؟ ولماذا لا يشاكس جبران تويني بتأييد التحقيق في حادثة اغتيال الحريري! إنه حق وطني وإنساني، فلماذا يزعلون منه، أو يشاكسونه على طريقتهم؟
وإذا كان جبران تويني قد عُرف بصراحته الواضحة، وهذا لا يدخل ضمن أروقة السياسة العربية، ولا ضمن مفاهيم المخابرات العريقة ودورها في الرقابة الصارمة والحجر على العقول، فإن عالم اليوم لا يعترف إلا بهذه المشاكسة، ويرفض المداهنات، واللعب بالأوراق، وتمرير القرارات من تحت الطاولة!
وإذا كان جبران قد قال في مقاله الأخير: نحن اخترنا الولاء للبنان لمصلحته أولاً! فما العيب في أن يختار مواطن هذا الولاء! وأي عقل يقبل إعدام مواطن بهذه الصورة على شرف يحمله أكثر الناس تخلفاً على وجه الأرضmiddot;
رحم الله لبنان وأهله، قد يصحّ الدعاء قبل الموت أيضاً، ولكن بعد الموت يصبح الدعاء مزيجاً من النحيب على شباب لبنان، هذا البلد الذي يقود التنوير في المنطقة المظلمة! وليت كل الأيادي في لبنان تبني وتزرع! ويترك لبنان حراً يديره أهله بكل حريةmiddot; وليعش المشاكسون في كل العالمmiddot;