ويليام فاف
ألقت روسيا بظلال كثيفة من الشك والريبة حول مدى كفاءة رئيسها فلاديمير بوتين عندما أقدمت موسكو على وقف إمدادات الغاز الطبيعي عن أوكرانياmiddot; ورغم أن روسيا سارعت إلى استئناف ضخ إمداداتها، إلا أن ذلك التصرف جاء في وقت يزعم فيه بوتين أنه حقق لروسيا مكانة دولية متميزة بين باقي القوى العالميةmiddot; تلك المكانة التي أراد تعزيزها أكثر عندما يترأس قادة مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى، وهو ما يتيح له الإشراف على الاجتماع السنوي لأكثر دول العالم نفوذا سواء على الصعيد الاقتصادي أم السياسيmiddot; غير أن ما ينساه بوتين هو أنه حتى بضمان روسيا موطئ قدم لها داخل نادي الكبار، إلا أن الواقع يشهد بأنها غير مؤهلة حقيقة لتكون عضوا في مجموعة الدول الثماني الكبرى، خصوصا أنها ليست دولة صناعية كبرى على شاكلة الدول الأخرىmiddot; ولئن كان قد سمح لها بالانضمام إلى نادي الكبار، فذلك يرجع بالأساس إلى رغبة قائمة لدى باقي الدول في تشجيع روسيا على المضي قدما على طريق الإصلاحات السياسية والاقتصادية، واعتراف من هذه الدول بالقوة الاستراتيجية والعسكرية العالمية التي كانت تتبوؤها روسيا في وقت من الأوقاتmiddot;
ومع ذلك فإن قيام بوتين بوقف إمدادات بلاده من الغاز عن أوكرانيا والسعي لمعاقبتها على ثورتها البرتقالية، ومحاولتها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ثم الاتحاد الأوروبي ليس بعيدا عن المنطقmiddot; وعلى أي حال لماذا تستمر موسكو في ضخ إمدادات الغاز إلى كييف بأسعار تفضيلية في الوقت الذي تبدي فيه هذه الأخيرة مشاعر عدائية تجاه روسيا، ولا تتوانى في إظهار رغبتها في التحالف مع الغرب؟ فقد قامت الثورة البرتقالية الأوكرانية بترويج سياسي ودعم اقتصادي من قبل المنظمات غير الحكومية الأميركية التي تربط العديد منها صلات إما مباشرة أو غير مباشرة مع الحكومة الأميركية نفسهاmiddot; ولم يقتصر ذلك على أوكرانيا، بل امتد الدعم الغربي، والأميركي خاصة، إلى جورجيا التي انتخبت حكومة موالية للغرب ومناوئة لروسياmiddot; وإلى حد الآن لم تجهر روسيا سوى ببعض الشكاوى على استحياء، ولم تصر على استيائها، وهو ما يعد أمرا لافتا في حد ذاتهmiddot;
ولو أردنا قلب المعادلة هل يعقل أن تسمح إدارة بوش، أو الكونجرس الأميركي للمنظمات غير الحكومية التابعة لروسيا، وبدعم من مباشر منها أن تفتح مكاتبها في واشنطن بهدف تدريب وتمويل الجماعات الأميركية التي تسعى جاهدة إلى إلحاق الهزيمة بالجمهوريين في الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة؟ أو أن تحاول المنظمات الروسية التدخل لإصلاح الديمقراطية الأميركية التي تتميز بسيطرة الأثرياء؟ بالطبع لن يحدث ذلك؛ غير أن ما يلفت النظر فعلا هو تأخر بوتين في الرد على الحكومات الغربية وانتظاره إلى غاية أواخر السنة المنصرمة كي يشرع في مهاجمة المنظمات الغربية العاملة في موسكو ويضيق الخناق عليها، علما بأنها كانت طيلة الفترة السابقة تعمل على مرأى من حكومة بوتينmiddot; وحتى بعدما أمعن الرئيس الروسي في فرض قيود مجحفة على حرية وسائل الإعلام ومراقبة التقارير والتحليلات الإخبارية وهو الشيء الذي أثار حفيظة الغرب، إلا أن ممارساته تلك قوبلت بنوع من التجاهل على أمل أن تكون مجرد ظاهرة طارئة سرعان ما سترحل عن الساحة الروسيةmiddot;
ورغم انزعاج بعض المنابر الإعلامية الغربية مثل صحيفة ''وول ستريت جورنال'' من استهداف بوتين للأليغارشية المسيطرة على مقاليد الأمور في روسيا والمحتكرة لمقدرات البلاد، إلا أن البعض في الغرب لم يعر اهتماما كبيرا لذلك معتبرين أنه شأن روسيا الداخليmiddot; لذا قام بوتين بتنصيب رفاقه السابقين في الاستخبارات الروسية في المواقع الحساسة، باعتبارهم أشخاصا وطنيين يسعون لإقامة حكم شفاف يقطع مع الممارسات الجشعة التي كانت تستمرئها القلة المسيطرة أثناء فترة حكم الرئيس السابق بوريس يلتسين، والنهب الذي كان سائدا وقتهاmiddot; وبقدومه إلى الحكم وقف بوتين سدا منيعا ضد اختراق المافيا والجماعات الإجرامية نسيج الدولة الروسية واقتصادها وأخرج البلاد من نفق هيمنة الأقلية التي كان همها الوحيد بسط سيطرتها على ثروات البلاد واستغلال ذلك لتحقيق مكاسب سياسيةmiddot;
بيد أن ما تلا جهود بوتين ورفاقه القابضين على مقاليد الحكم في موسكو كان انتكاسة فعلية غرقت خلالها روسيا في ممارسات شمولية طغى عليها كبح حرية التعبير وتزوير الانتخاباتmiddot; واليوم بدأت الشكوك تلوح في الأفق حول مقدرة بوتين على فهم العالم الخارجي والتعامل معهmiddot; فقد اعتقد أنه بإمكانه قطع إمدادات الغاز القادمة من آسيا الوسطى، ووقف الصادرات إلى أوكرانيا دون أن يتسبب ذلك في ردة فعل من أوروبا الغربية، أو الولايات المتحدةmiddot; ولا يبدو أنه فكر مليا في الدور الذي تلعبه روسيا وأوكرانيا في تزويد أوروبا بالإمدادات الضرورية من الطاقة، وهو ما أدى إلى تعبئة الحكومات الغربية ضد موسكوmiddot; بالإضافة إلى ذلك تسبب قرار بوتين بوقف إمدادات الغاز إلى كييف في الإضرار بسمعة شركة ''جازبروم'' الروسية والنيل من شفافيتها التجارية، لا سيما وأنها تعتبر أكبر شركة في العالم تنقب عن الغاز الطبيعي والمزود الأول للغاز في أوروباmiddot; وبالرجوع إلى التاريخ نجد أن السياق السياسي كان دائما حاضرا لدى دول أوروبا الغربية التي كانت تخشى إبان الحرب الباردة من إقدام الاتحاد السوفييتي على قطع إمدادات الغاز الطبيعي عن الغربmiddot; وكان الاتحاد السوفييتي من جانبه دائم التأكيد على طمأنة الغرب بأنه لن يقطع الإمدادات مهما بلغت درجة التوتر السياسي بين المعسكرين الغربي والشرقيmiddot;
أما اليوم فقد جاء بوتين ليهدد ذلك التفاهم القديم بين موسكو والغرب ويعيد إلى الواجهة شبح قطع إمدادات الغازmiddot; لكن على بوتين وأمثاله أن يدركوا جيدا القاعدة الاقتصادية التي تقول إن بيع الطاقة مشروط بوجود من يرغب الشراء، بحيث لن تنفع روسيا الكميات الكبيرة من الغاز التي تنتجها ما لم تبعها إلى الدول التي تحتاجهاmiddot; ومن هذا المنطق لا أعتقد أن الأمر يستدعي احتلال العراق والسعودية أو حتى السيطرة عليهما من أجل الحصول على النفط، لأن شراءه منهم هو أسهل وأقل تعقيداmiddot; ولكي يصبح النفط ذا قيمة فعلية بالنسبة للدول المنتجة عليها أن تسوقه دوليا وإلا فقد أهميتهmiddot; لذا فإن وقف الإمدادات النفطية لأسباب سياسية إنما يضر بمصالح المنتجين بالدرجة الأولىmiddot; بيد أن قدوم الصين وصعودها إلى الساحة العالمية كأحد كبار المستهلكين للطاقة أفقد هذه الحجة بعضا من بريقها، بعدما أصبح بإمكان المنتجين تنويع وجهات التصدير والاعتماد على الأسواق الآسيوية، خصوصا السوقين الصيني والهندي اللذين تحولا إلى مستهلكين كبيرين للطاقةmiddot; وأيا كان الأمر فإن عملاء شركة ''جازبروم'' لن ينسوا أبدا عملية وقف إمدادات الغاز الطبيعي التي جرت الأسبوع الماضيmiddot; والأكثر من ذلك أن فلاديمير بوتين بات موقنا بأن صادراته من الغاز الطبيعي ليست معطى ثابتا كما يتوهم الغرب، بل هي خاضعة للحسابات السياسيةmiddot;
التعليقات