ميشيل كيلو
لم يعرف أحد في الماضي رأيا لـ ldquo;مجلس الشعبrdquo; السوري في الأشخاص والأحداث. ولم يعرف أحد له رأيا في القضايا والأزمات، فالمجلس يعيش في عالم خاص، بحكم انتفاء دور السلطة التشريعية في العمل العام عامة والحكومي منه خاصة، وتعيين أعضائه من قبل الأجهزة، التي تنتقيهم وتحدد أسماءهم، قبل أن تتم الموافقة على ما عينته وانتقته في انتخابات عامة، تفتقر إلى الحرية والسرية.
ومن يقرأ الدستور السوري، سيصيبه الهلع بسبب ضآلة صلاحيات المجلس وأعضائه، وحجم سلطات الرئيس، الذي يسميه أعضاء المجلس ldquo;سيد البلادrdquo;، في انتهاك واضح لدستور بلدهم، الذي يحصر السيادة بالشعب وحده: صاحبها ومصدرها. وللعلم، فإن المجلس ينظم من حين لآخر، وبمجرد أن تصدر إليه الأوامر من فوق، حفلات ردح لا يصدق من يستمع إليها بالراديو أو يشاهدها على شاشة التلفاز أنها يمكن أن تتم في أي بلد من بلدان العالم، مهما كان حظه من البدائية وافراً، ينقلب فيها الملاك شيطانا والشيطان ملاكا، الصادق كاذبا والكاذب صادقا، الوطني خائنا والخائن وطنيا، المتعلم أميا والأمي متعلماً، السوري أجنبياً والأجنبي سورياً... الخ، فالمجلس يعيش خارج أية معايير، ويعمل دون أية عقلانية، لذلك لا وجود له في حياة السوري العادي، الذي يشعر بالخجل والعار عندما تنقل جلسة من جلساته على التلفاز، بسبب اللغة الموحدة التي يستخدمها أعضاؤه، والكلمات البذيئة التي يطلقونها، والتي يستعملونها جميعهم دون أن يلاحظ أي منهم أنه يكرر ما يقوله غيره، وأخيرا، بسبب طريقة المجلس، رئيسا وأعضاء، في كسر عنق اللغة العربية، التي يخال من يسمعهم أنها ليست غير خزان شتائم ضد الخصم ومديح وتزلف وتملق ورياء تجاه ما يسمونه ldquo;القيادةrdquo;، على أنهم للسادة ممثلي الشعب المزعومين قدرة لا تجارى في التلون وتبديل المواقف، فقد يشتمون شخصا اليوم ثم تأتي الأوامر بمدحه، فلا يجد أحد منهم غدا غضاضة في إغراقه بسيول من المدائح الكاذبة، التي تتعارض تعارضا جذريا مع الشتائم، التي كان هدفها إلى ما قبل ساعات. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك حفلة الردح، التي نظمها المجلس ضد أنور السادات، عندما عقد اتفاقية الكيلومتر 101 مع ldquo;إسرائيلrdquo;، وحفلة النفاق والكولكة المعاكسة، التي رتبوها بعد ذلك بأيام، حين جاء السادات إلى دمشق وأقنع، على ما يبدو، الأسد بأنه لم يغير مواقفه، أو بأن للنظام السوري مصلحة فيها.
وقف الشعب السوري باستنكار ودهشة واحدة من حفلات الزار الشعبي في اليوم الأول من العام الحالي، حين أنقض المجلس على عبد الحليم خدام، نائب رئيس الجمهورية السابق، الذي انشق عن النظام ووجه إليه اتهامات من العيار الثقيل، لو وجهت إلى النظام في أي بلد غير سوريا لأثارت حملات من الردود والحوارات والنقاشات والمبارزات بالبيانات والوقائع والحقائق، لكنها لم تثر عندنا، في ldquo;القطر المناضلrdquo;، غير الشتم والردح والسباب ضد من كان يعتبر مفخرة النظام ورجل التدبير والحكمة السياسية، وشريك الأسد الأب في قراراته وتفكيره، ويوصف بالرجل النزيه العفيف، والقائد العربي الشهم والمخلص لوطنه وأمته، عدو الإمبريالية الأمريكية اللدود والمشروع الصهيوني الغاصب، الذي تحول بقدرة قادر إلى ldquo;جبان، وكذاب، ووضيع، ومسيء، وانتهازي، وخائن، ووقح، وكلب، ونتن، ومشوه نفسيا ووطنيا، وبعير أجرب، وباعر جرب، ورديء، وساقط، وعدو، وخدام، وعبد، ومرتد، وقبيح، وصهيوني، وعميل، وناكر للجميل، وفاسدrdquo;. هذه المرة أيضا، انقلب موقف المجلس مائة وثمانين درجة، خلال ساعات قليلة، ليس لأن أحدا من أعضائه غير قناعته، فهؤلاء لا قناعة لهم، بل لأن إشارة جاءت من جهة ما، هي حتما فوق، قالت لهم بما يجب أن يقولوه، فانهالوا على خدام بشتائم ذكرت غيضا من فيضها، وانشبوا مخالبهم فيه، مع أنه الشخص نفسه، الذي عرفوه طيلة نيف وأربعين عاما، وجاء إلى الحكم لايملك شروى نقير وصار بفضله ثرياً.
هل كان أعضاء المجلس يجهلون تاريخ خدام، أم أنهم كانوا يتزلفون له ويمتدحونه بسبب تاريخه في نظام جعل سوريا بلا تاريخ؟. مهما يكن من أمر، لقد امتنع هؤلاء جميعهم، باستثناء واحد منهم يستحق التحية هو سليمان حداد، عن التوقف عند ظاهرة انشقاق خدام وعند معناها الخطير بالنسبة إلى النظام والبلاد، وركزوا على شخصه، الذي كان محترما فصار وضيعا، وكان عبقريا ووطنيا فصار تافها وخائنا، دون أن يعتذروا عن سكوتهم طيلة نيف وثلاثين عاما عن أعماله وأخطائه، وبينها، إن صحت، جريمة ضد الإنسانية، هي قيام أولاده بدفن نفايات نووية في الأراضي السورية، أدت إلى موت وتشويه آلاف السوريين، مع أن الشعب، الذي فاجأته حفلة الزار السياسي، كان يتوق إلى سماع ردود جدية على التهم التي وجهها إلى قادة النظام، الذين اتهمهم بتهديد الحريري بالسحق، وقال إنه أدخل سوريا في مواجهات مع القوى الدولية لا تستطيع كسبها، وامتنع عن القيام بأي إصلاح، وتسبب في الأزمة الراهنة، التي تواجهها سوريا وتتفاقم تحت قيادته.
بدل السياسة، قدم المجلس إلى ldquo;الشعب المناضلrdquo; شتائم، وبدل الحوار مهاترات، وبدل الحجج سبابا لا يسمن ولا يغني، مع أن كلام خدام أدخل البلد في طور جديد من الصراع على السلطة لا يعرف أحد كيف سينتهي أو إلى أين سيقودها، وإن كان المواطنون جميعهم يدركون خطورته، ويتمنون لو تعامل المجلس والحكومة والنظام معه بطريقة مختلفة، تشرح ما حدث وتقدم أجوبة عليه أو، أقله، على جوانب منه.
تعاملت السلطة، هذه المرة أيضا، باستهتار مع الشعب، وأشعرته من خلال سلوك المجلس بالمهانة والعار، وتركته قلقا على مصيره، الذي تشحنه بالفوضى والاضطراب، وتدأب على تخويف بناته وأبنائه من الآتي، وعلى ترك هؤلاء في حالة ضياع وذعر، حتى عندما تصل السكاكين إلى أعناقهم وعنق وطنهم، كما يحدث هذه الأيام.
تواجه سوريا أزمة تبذل السلطة جهودا حثيثة لجعل حلها مستحيلا، وتحلها بطريقتها التقليدية: توزيع اتهامات العمالة والخيانة على كل من ليس على مزاجها، وتخويف الشعب ومنعه من العمل على إخراج البلاد منها، كما حدث خلال ما سيعرف يوما بقضية عبد الحليم خدام.
التعليقات