وسام سعادة

آن الأوان لاختتام الحقبة quot;البعثيةquot; من عمر المنطقة quot;بالتي هي أحسنquot;. كذلك فقد آن الأوان للتفكير ملياً في مقاربة شاملة لهذه الحقبة، بشيء من العمق والاتزان، وبالتحكم قدر الامكان بالانفعالية التي قد تعميها جرائم 2005 في لبنان ليس عن رؤية lt;lt;منجزاتgt;gt; البعث وlt;lt;أمجادهgt;gt; طبعاً، ولكن عن رؤية مدى ما وصلنا اليه من خواء وعقم وعدمية. ولا يمكن رؤية ذلك دون العدول عما يسود معشر الليبراليين العرب، كما يقدمون أنفسهم، من نغمة انتصارية، تخال أن lt;lt;طائر الفينيقgt;gt; سيرفرف عالياً، وستعود للمنطقة حيويتها حالما يتوارى البعثي الأخير، علماً أن هذه الانتصارية وهذا الطائر الخرافي هما أيضاً من عنديات البعث.
ينبغي ألا تمنعنا اللحظة الراهنة من جرد العقود الماضية للاستخلاص بأنه ما عاد مقنعاً تحميل المدرسة البعثية وحدها المسؤولية عما حدث ويحدث، كما ما عاد مقبولاً التفكير بأن البعث كان مدرسة خلاقة ثم ساءت سبيلاً. ونحن هنا لا نتكلم عن البعث كعقيدة أو كعصبية حزبية منذ يوم تأسيسه، وانما عن lt;lt;الحقبة البعثيةgt;gt; منذ منتصف الستينيات الى يومنا، وهذه حقبة لا تقتصر في مدلولها على البلدين المحكومين بالعقيدة والحزب البعثيين، بل تشمل كل البلدان العربية. وهذه lt;lt;الحقبة البعثيةgt;gt; هي وليدة إجهاض lt;lt;اللحظةgt;gt; الناصرية، فالناصرية لحظة لا حقبة، لحظة كان ينبغي التقاطها في الخمسينيات، وتحديداً بعد الخروج من حرب 1956 بمشروعية وطنية قابلة لبلورة مشروع حداثي جدي، فكانت النتيجة إهدار اللحظة. مُنحت مصر عام 1956 ما لم يمنح لغيرها من بلدان الشرق الأوسط بعد سقوط السلطنة العثمانية غير تركيا. مَنحت حرب الاستقلال الغازي مصطفى كمال هذه المشروعية الوطنية للاتيان بمشروع حداثي بكل ثغراته وعقده ومحنه. المعادلة بسيطة: خاض حرب الاستقلال حتى العام 1922 بمعية الأفكار والعواطف المرتبطة بمرحلة منقضية من مثل الجامعة العثمانية والجامعة الاسلامية والجامعة الطورانية، لكن حرب الاستقلال نفسها أفرزت فكرة الوطنية الحديثة في تركيا، فانقضّت هذه الفكرة على عكازاتها السابقة. واذا كانت الفكرة الوطنية الحديثة والحداثية قد تمادت مع كمال في قطيعتها مع ارتباطاتها بالمدى العثماني أو التركوفوني أو الاسلامي، فإن الفكرة الوطنية مع جمال عبد الناصر بعد خروجه برصيد كبير من محنة السويس 1956 قرّرت أن تفعل العكس تماماً، وأن تعكّز على كل تضامنية lt;lt;جامعةgt;gt; متاحة، وأن تفوت الفرصة التاريخية هذه وراء خطابية عالمثالثية وفرتها روحية باندونغ وما شابه. على هذا النحو، جاءت lt;lt;الوحدة العربيةgt;gt; عام 1958 لترمز الى الضياع السريع للفرصة المعطاة. عند عتبة الوحدة، تداخل نوعان من الهروب الى الأمام: هروب تلاوين المجتمع السياسي السوري الى أحضان الوحدة لأكثر من سبب، وهروب عبد الناصر من الفرصة التاريخية المعطاة له. بدل رمي عكازات الأفكار والعواطف lt;lt;الجامعةgt;gt; كما فعل الغازي باشا مصطفى كمال بعد خروجه من حرب الاستقلال، قرّر جمال عبد الناصر الاعتماد على هذه العكازات وحدها، فكانت الوحدة والانفصال، وكانت حرب اليمن وهزيمة 1967. والأهم من كل ذلك: تسليم المسؤولية التاريخية للنهوض بحال العرب الى العدمية البعثية. العدمية البعثية هي السيناريو التالي: متحدرون من جماعات أهلية غير مدينية يدخلون الى الجيش والى حزب البعث بهدف الارتقاء الاجتماعي أو الثقافي. فجأة يتمكن هؤلاء الضباط من الاستيلاء على السلطة. فجأة تصبح مسؤولية النهوض lt;lt;بالأمةgt;gt; في أعناقهم. لقد ضيعت مصر الناصرية إمكان النهوض النموذج في الخمسينيات، فانتقلت المهمة اليهم مع أنهم لم ينتدبوا أنفسهم بشكل حقيقي لها. ماذا فعلوا؟ حاولوا الحفاظ على lt;lt;المهمةgt;gt; أمانة في أعناقهم، حاولوا بمعنى ما lt;lt;إدارة الأزمةgt;gt;. يبدو الأمر في جانبه العدمي كما لو تم تسليم إدارة وكالة الفضاء الأميركية لفلاح أمي من المكسيك، فكانت الحقبة البعثية تزاوجاً بين براءة الشرّ وعدميته. هذه البراءة العدمية بادية في وجوههم، مرة حين يقعون في مصيدة المحاكمة ومرة حين يرفضون المثول أمامها.