فاطمة المحسن
هل نحن شعب ملعون؟، هذا ما يسأله العراقيون هذه الأيام، فدفقات الموت المندفعة مثل تسونامي إلى شواطئهم، لاتحرك ساكنا ولا تثير ضميرا أدبيا ولا تدرج في برامج دعاة السلام أو حملة الأقلام من العرب وسواهم.
التعاطي مع الحالة العراقية دائما يخضع إلى الاستبدال، فهي قضية يرى الأدباء العرب أنفسهم وشعوبهم من خلالها، وما يكتب عنها، وما أكثره، هو حالة من حالات الاستبدال، فهي أقرب إلى غلالة رقيقة تحجب القائل عن قوله الأصلي. هي تورية، مجاز، استعارة، وليست حقيقة مشهودة. ولعل وقائعها اليومية من تلك التي لاتروى وتقال ويعاد إنتاجها فنيا أو تستدعي اللقاءات الثقافية والمؤتمرات. هي لفرط وضوحها تكاد تصبح مجرد رهان، رهان على فهم مصطلحات مثل الحداثة وما بعدها او السلفية وما قبلها أو الاختلاف بين الكولونيالية والإمبريالية.
تجريد القضية من مرآها العيني، من ملمس الدم الذي تغص به، مؤشر ثقافي إلى حقبة تاريخية في حياة العرب والعالم أجمع. انها افتراق بين ما يسمى في المصطلح الأدبي laquo;المسكوت عنهraquo; وما يطلق عليه الفضيحة المدوية. فليس بمقدورنا التخمين، كم عدد الأدباء العرب الذين يوحي كلامهم وكأن الشماتة هي التي تحركه حين يكتبون عن العراق.بالطبع هم براء من هذه الخصلة، فحججهم فيها بعض وجاهة، فالكثير من العراقيين قبلوا حكومة laquo;عميلةraquo; وذهبوا أفواجا للاقتراع تحت حراب الاحتلال.
وقف هيثم منّاع رئيس لجنة الدفاع عن حقوق الصحافيين والكتاب العرب، عشية الانتخابات العراقية الأولى وتكلم بثلاث لغات : الفرنسية والعربية والانكليزية، ودعا العراقيين إلى رفض هذه الممارسة المشينة، فهي لاتليق بهم. ولو قيض لي أن أسأل منّاع الذي التقيته ببغداد عند ذهابي اليها : هل تود لشعبك ممارسة الانتخابات تحت حراب الاحتلال؟ لأجابني بالقطع لا، فهو أعرف بشعاب بلده مني، ولكن يتوجب علي أن أساله اولا وهو ينشغل بممارسة سياسية لامهمة إنسانية، لماذا لم تستأهل التفجيرات التي تحصل ببغداد وغيرها، وفي أشد المناطق فقرا وابتعادا عن السياسة، تصريحات منك؟. هنا عليّ أن اعلن سبب انتقائي لرجل دمث ومؤدب ورقيق مثل هيثم منّاع، فقد سبق ان اعلنت غيرتي من تيسير علوني، فكل الصحافيين العراقيين الذين قتلوا واختطفوا وذبحوا، لم يحركوا مراجل الحماس التي تغلي في تصريحات المنّاع عند الدفاع عن بطل التورا بورا تيسير علوني.
نحن إذن أمام مفاضلة بين مصطلح ممل مثل laquo;المسكوت عنهraquo; ومصطلح آخر أقل تداولا وهو الفضيحة، فالدفاع عن العراقيين هو فضيحة غير مشرّفة ماداموا من غير ضحايا الغريب المحتل، أما ان كانوا ضحايا سواه من العرب او العراقيين، ففي الأمر وجاهة وتفهم.
والحق ان الأمور لاتقتصر على فعل تضامن، قدر ما تشكل إعلانا عن ثقافة كاملة، ثقافة تكمن المفخخات تحت جلدها، وتتخفى الكراهية تحت أظافرها. فالذين يدعمون الارهاب في العراق لحجج مختلفة، بينها الحجة الطائفية والقومية، ليسوا قلة قليلة في بلداننا العربية، ومن يقل غير ذلك جد واهم. ففي السواحل العربية المسالمة، وهي أقرب إلى بلدات سياحية وإستثمارية وموالية للغرب، تجمع ملايين الدولارات لتتدفق إلى العراق مؤيدة العمليات الارهابية وممولة للعنف من كل نوع. لعل قائلا يقول ان هذه ترضية تمنع الشر عن تلك البلدان، وهذا ما يحصل بالفعل، فلم تشهد تلك الأقاليم التي هي مراكز البترول والاستثمار الغربي والسياحة بكل ضروبها، لم تشهد أية حوادث إرهابية تثير الاهتمام. ولكن ألا تسترعي كلمة laquo;الترضيةraquo; ذاتها الانتباه.، فالعرب يكرهون أميركا بالفطرة، وكل اتفاقياتهم معها مجرد بروتكولات لا تمت بصلة إلى عواطفهم، لاسباب مفهومة ومبررة، ولكن هل يحق للعراقي الاعتقاد أن العرب يمارسون معه ما تمارسه أميركا ذاتها، أي أنها تبعد الارهاب عن أرضها بتشجيع الارهاب في بلده؟.
هناك همس كثير في الثقافة العربية حول موت العراقيين، فهو سلعة للتلفزيونات والفضائيات العربية، مع ان درجة إهتمام تلك الفضائيات بالانتحاري الذي يفجر نفسه في العراق لاتشبه درجة الاهتمام به في بلد غيره، فالارهابيون في العراق كثر إلى درجة أضحت عملياتهم الانتحارية مضجرة للمشاهد الذي تختلط مشاعره بين فرح من هزيمة الأميركان في العراق بسبب تلك العمليات، ومتألم من تلك الساعات التي تذكره بهذا الموت المجاني.
لا أحد من العرب يود مقارنة بلده بالعراق أو ربطه بمشاكله، وعندما يجد العراقي بعض تشابه جدير بالشرح، يهبّ العربي مذعورا، مثل من يقترب من فرس جرباء. نحن أمام نظام جديد في القيم يجربه العرب على أرض العراق، وهو وجه من أوجه ثقافة تتشكل بين ظهرانينا، هي ثقافة التعصب التي تتلبس صيغة الحب، فما ان يعّرف العراقي بنفسه في اي شارع عربي، حتى يهرع الناس بكلمات المحبة التي تخجله، ولكن سرعان ما يكتشف ان محدثه لايريد سوى العراقي الذي يشتهي، العراقي القضية التي تخصه هو. لقد جرّب الشباب بعمر الورود الذين قدموا العراق هذه المحبة، فهم يتجولون بالأحزمة الناسفة بين الذين ينتقونهم من العراقيين، ليعانقوا معهم الموت. أطفال وشيوخ ونساء وعمال فقراء يحق عليهم الاعدام لانهم ليسوا الذين يشاءهم العربي على صورته. ألا يصلح نظام القيم الجديد هذا، أن تنتبه اليه مؤتمرات الثقافة والفكر العربي؟. تلك قضية أخرى لاتعني الكثير في بلد سيئ الحظ مثل العراق، ولكن ستعني العرب يوما، وهذا ما ينتظره العراقيون على أحرّ من الجمر، فالعنف الذي سينتقل مثل الثعبان من الكثبان العراقية إلى البلدان العربية، هو الوسيلة الوحيدة لتغيير نظام القيم، بل الضمير الثقافي العربي.
وعندما يفكر العراقي مثلما أفكر أنا في هذه اللحظة وعلى هذا النحو، فسيكون لنظام القيم هذا حكاية أخرى، هي أكبر من أمنيات شريرة او طيبة، بل إدراك لخطورة ان تطغى الرغبة على العقل، وتصبح الرذائل طبائع عنصرية، تغيب بين طيات اللاوعي، ولا تسترعي اهتمام الثقافة العربية، لأنها جزء منها.
التعليقات