محمد السمَّاك

عندما أصيب الجنرال آرييل شارون بنزف في المخ ودخل الغيبوبة في مستشفى هداسا في القدس، أصدر القس بات روبرتسون الحكم الإلهي عليه.
والحكم يقول: إن الله يعاقب شارون بسبب الجريمة التي اقترفها بالانسحاب من قطاع غزة.
لم يدعُ بات روبرتسون ربّه ليخفف عن شارون معاناة المرض، أو أن ينقذ حياته. ولكنه اعتبر اصابة شارون عقاباً إلهياً. واعتبر بالتالي معاناته تشفياً ودرساً لكل من تسوّل له نفسه الانسحاب من quot;الأرض التي اختارها الله لنفسه وللشعب الذي أحبهquot;.
ليس روبرتسون مجرد قسٍ أميركي عادي. انه من اقطاب الحركة المسيحانية الصهيونية في الولايات المتحدة. وتؤمن هذه الحركة بأن من حقها بل من واجبها، العمل لتحقيق الإرادة الإلهية بالعودة الثانية للمسيح. وان من مفترضيات هذه العودة قيام quot;صهيونquot; على كامل الأرض التي وعد الله بها بني اسرائيل، وبناء الهيكل حيث يقوم الآن المسجد الأقصى ليكون مرة ثانية المنطلق للمسيحية التي سوف تسود العالم كله لمدة ألف عام. وفي اعتقاد هذه الحركة أيضاً quot;ان كل الناس سوف يصبحون مسيحيين مولودين ثانيةquot;. أما الآخرون فيذوبون في النيران التي تصهر الحديد في معركة مصيرية ونهائية يطلقون عليها معركة هرمجيدون. (نسبة الى سهل ماجيدو بين القدس وعسقلان).
وتضم هذه الحركة حسب ادعاءاتها نحو 70 مليون أميركي. إلا أن التقديرات التي تعترف بها الكنائس الانجيلية الأخرى التي لا تشاركها هذا الاعتقاد تخفض العدد الى نحو 40 مليوناً. ومن هؤلاء سياسيون وإعلاميون وعسكريون وديبلوماسيون وأكاديميون ورجال مال وأعمال كبار.
وتدير هذه الحركة سلسلة من محطات التلفزة والاذاعة والصحف والمجلات، كما تدير عدداً من الجامعات والمستشفيات المنتشرة في طول الولايات المتحدة وعرضها.
أما روبرتسون نفسه فقد سبق ان ترشح لمنصب رئيس الولايات المتحدة في عام 1980، ثم انسحب لمصلحة الرئيس رونالد ريغان الذي كان يشاطره الايمان بتعاليم الحركة المسيحانية الصهيونية.
من هذه التعاليم وجوب quot;تحرير وتطهيرquot; أرض الله من العرب، مسلمين اكانوا أم مسيحيين وتهويدها، ليس حباً باليهود، ولا ايماناً باليهودية، ولكن تنفيذاً للشروط اللازمة للعودة الثانية للمسيح. ذلك ان هذه العودة المنتظرة تعني فناء كل اليهود باستثناء 114 ألفاً منهم فقط يتحولون الى المسيحية ويتبعون المسيح العائد. أما الآخرون فيذوبون مع المسلمين وسواهم من الذين ينكرون المسيح الثاني في نيران هرمجيدونquot;.
وانطلاقاً من هذه العقيدة، تعتبر الحركة المسيحانية الصهيونية العرب المسلمين والعرب المسيحيين الكاثوليك والأرثوذكس والانجيليين أعداء يجب القضاء عليهم وتطهير أرض المسيح العائد منهم. وانطلاقاً من هذه العقيدة أيضاً تعتبر الحركة الاسرائيليين الذين يتقاعسون عن تنفيذ مهمة تطهير الأرض من غير اليهود مجرمين يجب التخلص منهم أيضاً.
واذا كان اكثر من نصف الاسرائيليين وافقوا على الانسحاب من قطاع غزة، فإن كل المسيحانيين الصهاينة في الولايات المتحدة كانوا ضد هذا الانسحاب. فالاسرائيليون الذين أيدوا شارون في حينه اعتبروا الانسحاب خطوة نحو التسوية السلمية. أما المسيحانيون الصهاينة في الولايات المتحدة فقد عارضوا الانسحاب على أساس اعتباره تراجعاً عن مهمة إلهية، وبالتالي تعطيلاً لشروط العودة الثانية للمسيح وتأخيراً لهذه العودة!.
من أجل ذلك قال روبرتسون ان ما أصاب الجنرال شارون كان عقاباً إلهياً.
طبعاً ليس بات روبرتسون هو القس الوحيد الذي جاهر بإصدار هذا الحكم. ان جميع قساوسة الحركة المسيحانية الأميركية يشاركونه هذا الايمان والحكم. فالقس جيري فولويل مثلاً (وهو غير اليهودي الوحيد الذي منحه رئيس الحكومة الاسرائيلية الأسبق مناحيم بيغن وسام جايوتنسكي تقديراً لخدماته لإسرائيل)، سأل رئيس الحكومة نتنياهو أثناء مفاوضات واي ريفر في واشنطن: هل صحيح انكم وافقتكم على انسحاب من أراضٍ فلسطينية مقابل التسوية؟. فردّ نتنياهو: انسحاب شكلي وتجميلي فقط، وليس انسحاباً أساسياًquot;.
فقال له فولويل: quot;لا يجوز الانسحاب ولو من انش واحدquot;!
وهذا يعني ما قد تراه اسرائيل quot;ضرورياًquot; بموجب مقتضيات اللعبة السياسية، تراه الحركة المسيحانية الصهيونية quot;محرّماًquot; بموجب مقتضيات quot;الوعد الالهيquot;.
في ضوء ذلك، كان تفسير اغتيال رئيس الحكومة اسحق رابين وتبريره. وهو ما يفسّر ويبرّر أيضاً سلسلة العمليات التي تستهدف المسجد الأقصى في القدس منذ محاولة احراقه في عام 1969. (أي الحريق على 1500 متر مربع من الحرَمquot;.
ولا بد من الاشارة هنا الى أن المجرم الذي أقدم على إحراق المسجد في ذلك الوقت لم يكن يهودياً، ولكن كان واحداً من اعضاء الحركة المسيحانية الصهيونية في استراليا يدعى ستانلي غولدفوت.
لقد زيّنت هذه الحركة للرئيس الأميركي جورج بوش سوء عمله عندما قرر غزو العراق. اذ اعتبرت ضرب العراق كما قال قساوستها أنفسهم quot;انتقاماً إلهياً لليهود من السبيquot; الذي تعرضوا له على يد نبوخذ نصّر في عام 586 قبل الميلاد.
لقد تشابكت ايدي الحركة المسيحانية الصهيونية بأيدي المحافظين الجدد الذين سيطروا على عملية صناعة القرار السياسي الأميركي من قضايا الشرق الأوسط. فالمحافظون الجدد يهود في معظمهم، وهؤلاء يحملون الجنسية الاسرائيلية الى جانب جنسيتهم الأميركية، وكانوا ولا يزالون يعملون مستشارين لدى نتنياهو الذي يعدّ العدّة لخلافة شارون في رئاسة الحكومة.
أما أقطاب الحركة المسيحانية الصهيونية فليسوا يهوداً، بل انهم يكرهون اليهود في أعماق نفوسهم، ولكنهم يعتبرون دعمهم ومساعدتهم واجباً دينياً لاكتمال شروط العودة الثانية للمسيح. أي انهم ينظرون الى اسرائيل على انها وسيلة وليست هدفاً في حد ذاته.
يعرف يهود أميركا واسرائيل ذلك معرفة كاملة. ولكنهم يتعاونون معهم على أساس الالتقاء على العداء للمسلمين وللمسيحيين العرب الذين يعادون اسرائيل، ويعطلون العودة الثانية للمسيح.
وعندما تجد اسرائيل نفسها مضطرة للانسحاب من أراضٍ فلسطنية محتلة ولو تكتيكياً، أو للمساومة السياسية، تنبري الحركة المسيحانية الصهيونية الى الاعتراض.
حدث ذلك مراراً في السابق، منذ الانسحاب من سيناء بموجب اتفاق كمب دايفيد.. حتى الانسحاب من غزة.